لا يختلف خبيران على أن الاقتصاد الإسرائيلي يتكبد عشرات مليارات الدولارات من الخسائر المادية ناهيك عن البشرية نتيجة العدوان المتواصل على غزة بلا هوادة، فضلاً عن اهتزاز ثقة السكان والمستثمرين، محليين وأجانب، بإمكان استقرار دولة الاحتلال في قادم الأيام والسنين.
ولئن كانت الآلة الإعلامية الخاضعة لسلطات الاحتلال داخل فلسطين المحتلة تسعى إلى بث التفاؤل لتعزيز ثقة أصبحت واهية وتثبيت ما تبقى من استثمارات ومقيمين، فإن المراقبين الأجانب خارج سيطرة الاحتلال يقدّمون قراءات أكثر تحرراً تجعل تقاريرهم أقرب إلى الموضوعية وتفضح زيف ادعاءات المتفائلين المصطنعة في إطار الدعاية السياسية والحرب النفسية.
ففي حين أن القنابل لا تزال تتساقط على القطاع المحاصر منذ سنوات، يبقى تقديم بيانات دقيقة حول خسائر الاقتصاد الإسرائيلي غير نهائي، بيد أن العوامل الاقتصادية الناتجة من الهجوم المستمر منذ نحو 3 أشهر لها آثار قوية على الكيان، فضلاً عن الاقتصاد الفلسطيني في غزة والضفة الغربية وحتى في بعض دول المنطقة، لا سيما لبنان المنخرط جنوبه في مواجهة مع جيش الاحتلال على الجبهة الفلسطينية الشمالية.
في السياق، تنقل صحيفة "واشنطن بوست" عن اقتصاديين قولهم إن التأثير حتى الآن يقارن بأسوأ ما خلفته جائحة كورونا، لكن يمكن أن يتجاوز تلك الخسائر إذا ما استمر كيان الاحتلال في عدوانه المدمّر على غزة.
فمنذ بدء "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، زاد الإنفاق الحكومي والاقتراض داخل دولة الاحتلال، وانخفضت عائدات الضرائب، وقد تتأثر التصنيفات الائتمانية رغم المماطلة الواضحة التي تمارسها وكالات التصنيف الكبرى الأميركية الثلاث، "فيتش" و"موديز" وستاندرد أند بورز"، في خفض درجة إسرائيل إلى المستويات المتدنية التي تستحق، على غرار ما فعلت مع روسيا مثلاً عقب غزوها أوكرانيا في فبراير 2022.
وفي حين يتوقع "بنك إسرائيل" المركزي انخفاض نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 1% عام 2024، نزولاً من توقعات سابقة بنسبة 3% في عام 2023، يتحدث بعض الاقتصاديين للصحيفة الأميركية عن "انكماش" مرتقب لاقتصاد الاحتلال في العام 2024، خاصة أن التأثير مثير للقلق على قطاع التكنولوجيا الفائقة الذي يُعد محرك الاقتصاد الإسرائيلي، فيما ينضوي العديد من موظفيه في صفوف جنود الاحتياط، وفي كل يوم يتواجدون في غزة، يكافح أصحاب العمل لمواصلة الاستثمار في البحث والتطوير والحفاظ على حصتهم في السوق.
تكلفة العدوان على غزة بالأرقام والوقائع
ينفق الاحتلال أموالاً طائلة على نشر أكثر من 220 ألف جندي احتياطي في المعركة ودفع رواتبهم، علماً أن العديد من هؤلاء الاحتياط هم عمال في مجال التكنولوجيا الفائقة في مجالات الإنترنت والزراعة والتمويل والملاحة والذكاء الاصطناعي والأدوية والحلول المناخية.
ويعتمد قطاع التكنولوجيا في إسرائيل على الاستثمار الأجنبي. لكن ذلك كان يتضاءل حتى قبل الحرب، ويرجع ذلك جزئياً إلى القلق بشأن عدم الاستقرار الذي يعتقد المستثمرون أن حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو اليمينية قبل الحرب جلبته إلى إسرائيل رغم إعلان "إنتل" الأخير عن المضي قدماً في إنشاء مصنع للرقائق بقيمة 25 مليار دولار في جنوب الكيان، وهو أكبر استثمار على الإطلاق من قبل شركة في فلسطين المحتلة.
كما تدعم السلطات نحو 200 ألف شخص تم إجلاؤهم من مستوطنات غلاف غزة وعلى طول الحدود مع لبنان، وإيواء العديد منهم وإطعامهم في فنادق الشمال والجنوب على نفقة الحكومة.
أيضاً، توقفت السياحة، إذ تبدو شواطئ تل أبيب والبلدة القديمة في القدس خالية من الأجانب. وتم إلغاء احتفالات عيد الميلاد في بيت لحم بالضفة الغربية المحتلة هذا العام. وقدرت الإلغاء خسائر بنحو 200 مليون دولار. وتوقفت أعمال البناء التي تعتمد عادة على العمالة الفلسطينية من الضفة. ومنذ أن شنت إسرائيل عدوانها، علّقت تصاريح العمل لأكثر من 100 ألف فلسطيني.
كذلك، انخفضت الصادرات في جميع المجالات. وتم إيقاف الإنتاج من حقول الغاز الإسرائيلية في البحر الأبيض المتوسط في وقت مبكر من الحرب مثل تمار، مع أنها الآن تعمل جزئياً.
وعليه، يقدر الاقتصاديون الذين أجرت "واشنطن بوست" مقابلات معهم، أن الحرب كلفت الحكومة نحو 18 مليار دولار حتى الآن، أو 220 مليون دولار يومياً.
وفي هذا الإطار، أجرى نائب محافظ بنك إسرائيل السابق والأستاذ الفخري في جامعة تل أبيب زفي إيكشتاين، مع زملائه، تدقيقاً في الأرقام، وخلص إلى أن التأثير على ميزانية الحكومة، بما في ذلك انخفاض عائدات الضرائب، للربع الرابع من عام 2023 بلغ 19 مليار دولار، ومن المرجح أن يصل إلى 20 مليار دولار في الربع الأول من عام 2024.
وتُبنى هذه التقديرات على افتراض أن الحرب لن تمتد إلى لبنان. لكن إلامَ ستؤول الأوضاع إذا اندلعت حرب أوسع نطاقاً مع "حزب الله"؟ حكماً ستتفاقم خسائر كيان الاحتلال.
توقعات التكلفة الإجمالية للعدوان على غزة
إن حرباً تستمر من 5 إلى 10 أشهر أُخرى يمكن أن تكلف كيان الاحتلال ما يصل إلى 50 مليار دولار، وفقاً لصحيفة "كالكاليست" المالية، وهذا ما يعادل 10% من الناتج المحلي الإجمالي.
لكن الحرب يمكن أن تستمر لفترة أطول، إذ تتوقع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن أن تتحول عمليات العدوان في العام 2024، من القصف المكثف وقتال الشوارع العنيف بين جيش الاحتلال وقوات المقاومة إلى هجمات أكثر استهدافاً. وقد حذر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الأسبوع الماضي، من أن "نهاية الحرب ليست قريبة".
كيف تُقاس تكاليف العدوان على غزة؟
في هذا الصدد، يقول الأستاذ في كلية "أونو" الأكاديمية يارون زليخة، وهو خبير اقتصادي سابق في وزارة المالية الإسرائيلية، إن من المهم فهم الآثار المترتبة على الحرب.
فهناك تكلفة شن الحرب، والانخفاض الحاد في النشاط الاقتصادي وما نتج عنه من انخفاض في الإيرادات. وينتج عن العجز في الإنفاق تكاليف الاقتراض، والتي ستؤثر في الميزانية لفترة طويلة بعد توقف إطلاق النار.
وأظهر استطلاع رأي أجرته مجموعة "لاتيت" الخيرية أن 45% من الإسرائيليين يعترفون بالقلق من أن الحرب ستجلب لهم صعوبات اقتصادية.
وقال اقتصاديون لصحيفة "كالكاليست" إن هجمات "حماس" كانت كارثة بالنسبة للاقتصاد، حيث أدت إلى تأكّل ثقة المواطنين والشركات والمستثمرين في الحكومة والجيش، فيما سيكون من الصعب استعادة هذه الثقة.
ما التكلفة التي يتحملها العمال من العدوان على غزة؟
أدت موجبات استدعاء جنود الاحتياط، البالغ عددهم 360 ألف جندي، والتهجير والآثار غير المباشرة للحرب إلى تعطيل ما يصل إلى 20% من العمال الإسرائيليين.
ويقول المدير الإداري لشركة "مانباور إسرائيل"، أكبر وكالة توظيف في البلاد، ميشال دان هاريل، إن "الاقتصاد الإسرائيلي شهد موجة صدمة مماثلة لذروة جائحة كورونا، حيث توقفت أجزاء كبيرة من الاقتصاد لمدة أسبوعين تقريباً، وكان الناس في حالة صدمة. كل يوم يكشف حجم الأزمة، وأصبحت المناقشات حول الحياة الطبيعية، مثل العمل أو كسب العيش، غير شرعية تقريباً".
ويعتقد هاريل أن تأثير عمليات نشر جنود الاحتياط كان دراماتيكياً بشكل خاص، لأنه "يتم استدعاء الأفراد من دون معرفة متى سيعودون إلى عملهم، ولم يتوقع أحد تجنيدهم لمدة 3 أشهر أو أكثر".
هل يتمتع الاقتصاد الإسرائيلي بمرونة كافية؟
يرى رجل الأعمال في مجال التكنولوجيا الفائقة وصاحب رأس المال المغامر إيريل مارغاليت أن "إسرائيل كانت تصعد الجبل بأثقال على ساقيها على مدى 25 عاماً مضت"، مشيراً بذلك إلى الحروب والانتفاضات والتحديات الأخيرة.
وأضاف العضو السابق في الكنيست أن محاولة حكومة نتنياهو قبل الحرب الحد من سلطة السلطة القضائية والتي أثارت احتجاجات ضخمة دامت عدة أشهر، أضرّت بالاستثمار الدولي.
وانتهى إلى القول إن العدوان على غزة الآن "يشكل ضربة إضافية"، داعياً إلى ما يشبه "صفقة فرانكلين روزفلت الجديدة"، من أجل تعزيز الابتكار والتعليم والأعمال التجارية الجديدة في شمال فلسطين المحتلة وجنوبها الأكثر تضرراً بعد انتهاء الحرب.
ما أهمية المساعدات الأميركية؟
تقدّم الولايات المتحدة للاحتلال الإسرائيلي دعماً عسكرياً بقيمة 3.8 مليارات دولار سنوياً، وتتقاسم الدولتان التكنولوجيا الدفاعية لمنح الكيان ميزة استراتيجية على خصومه وجواره.
كما تبيعه قنابل وصواريخ وقذائف بمئات الملايين من الدولارات. ويعكف البيت الأبيض حالياً على تمرير مشروع قانون تمويل إضافي قدره 14 مليار دولار كمساعدة في أوائل 2024، لكنه توقف في الكونغرس، حيث يناقش الحزبان تمويل صون الحدود الأميركية.
للإشتراك في قناة ( اليوم برس ) على التلغرام على الرابط
https://telegram.me/alyompress
اقرأ ايضا :
اضف تعليقك على الفيس بوك