في منشور له على منصته للتواصل الاجتماعي "إكس"، قال أغنى رجل في العالم إيلون ماسك "أصبحت المسيحية بلا أنياب. وما لم يكن هناك المزيد من الشجاعة للدفاع عما هو عادل وصحيح، فإن المسيحية ستهلك".
ووصف نفسه، في حوار مع المفكر الكندي المحافظ جوردان بيترسون، بأنه "مسيحي ثقافي"، مشيرا إلى أن أسباب إيمانه أخلاقية وسياسية؛ فهو يعتقد أن المسيحية يمكن أن تعزز السعادة ومعدلات الولادة.
وأثارت تحولات ماسك الأخيرة واستدعاؤه المتكرر للمسيحية في قضايا اجتماعية وسياسية، جدلا كبيرا فالشائع عن ماسك -الذي نشأ قريبا من الكنيسة الأنجليكانية في جنوب أفريقيا وارتاد مدرسة يهودية في سن مبكرة- قوله إنه عاش أزمة وجودية بحثا عن معنى.
ولجأ للكتب الدينية مثل الكتاب المقدس والقرآن والتوراة وقرأ لفلاسفة مثل شوبنهاور ونيتشه، لكنه لم يبدأ في العثور على ما كان يبحث عنه إلا بعد أن اكتشف أدب الخيال العلمي، وحينها أدرك أن الغرض من الحياة لا يتلخص في العثور على الإجابات الكبيرة بل في طرح الأسئلة الصحيحة، كما قال.
لكن بخلاف تلك الحيرة الوجودية، بدأ الجانب الديني لماسك (المسيحي الثقافي) بالظهور في عام 2022، بالتزامن مع استحواذه على موقع تويتر الذي حوّله إلى "إكس"، وكذلك تحول سياسيا للتيار المحافظ معبرا عن مخاوفه بشأن السياسات الليبرالية "المتطرفة" بحسب وصفه الذي نقلته صحيفة وول ستريت جورنال في تقرير لها عن ماسك والمسيح.
رياح التغيير
ينضم ماسك -بتحولاته الأخيرة تلك- إلى العديد من المفكرين المحافظين الغربيين الذين يشعرون بالقلق من عالم سريع التغير. بعض هؤلاء المفكرين تبنى المسيحية لمواجهة هذه التغيرات.
لكنهم غالبًا ما يتوقفون عن قبول القضايا الإيمانية المسيحية الأساسية (كالمعجزات الخارقة للطبيعة)، مثل قيامة المسيح، كما يحلل الأكاديمي سيمون مكارثي جونز، أستاذ علم النفس السريري وعلم النفس العصبي بكلية ترينيتي في دبلن الذي يدرس العلاقة بين الدين وعلم النفس.
ويرى مكارثي جونز أن امتطاء المسيحية – ولو جزئيا- كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية يمكن أن يأتي بنتائج عكسية.
قد يكون لهؤلاء المفكرين خيار آخر: إذا كان بإمكاننا الحصول على قهوة دون كافيين وجعة دون كحول، فلماذا لا تكون هناك مسيحية دون معجزات وغيبيات؟ هل يمكن أن يتبنى المفكرون المحافظون "مسيحية مخففة" ولا يزالون يمضون قدما في تحقيق أهدافهم الدنيوية؟
يحلل الأكاديمي مكارثي جونز في مقاله بمنصة ذا كونفيرزيشن، تحولات المد والجزر المسيحية في الأوساط الفكرية المحافظة، مستشهدا بالملحد الأشهر، ريتشارد دوكينز، الذي يصف الادعاءات الأساسية للمسيحية بأنها "هراء واضح"، لكنه لا يزال يعرف نفسه بأنه "مسيحي ثقافي" لأنه يستمتع بالأناشيد الدينية والكاتدرائيات.
بالمقابل، يرى آخرون قيمة أخلاقية مضافة في المسيحية، ومن هؤلاء المعلق البريطاني المحافظ دوغلاس موراي الذي يصف نفسه بأنه "ملحد مسيحي"، رافضًا المعتقدات المسيحية الرئيسية، لكنه -في الوقت ذاته- يقدر أفكارها الأخلاقية مثل "حرمة الإنسان".
ومن هؤلاء أيضا عالم النفس المثير للجدل جوردان بيترسون الذي يتصرف "كما لو" أن الله موجود لأن الاعتقاد بوجوده بالنسبة له يوفر معنى وهدفًا ونظامًا للعالم، بحسب وصف الأكاديمي مكارثي جونز.
وبخلاف هؤلاء وأولئك يرى آخرون "قيمة سياسية" مضافة في المسيحية، مثل دوكينز الذي يقدرها باعتبارها "حصنا ضد الإسلام"، وربما أيضا ماسك الذي يعتقد أنها يمكن أن تزيد معدلات الولادة وتمنع انهيار السكان.
وعندما تحولت الكاتبة الهولندية من أصل صومالي آيان هرسي علي إلى المسيحية، استندت إلى أسباب سياسية، معتبرة أن المسيحية هي الطريقة الوحيدة التي يمكن للغرب من خلالها مكافحة "الصحوة" والإسلام والأنظمة الاستبدادية، بحسب تعبيرها.
وأوضحت لاحقًا: "أختار أن أؤمن بأن يسوع قام من بين الأموات"، لكنها أضافت، "ما هو أكثر واقعية بالنسبة لي هو الحكمة في تلك القصة، والأخلاق".
وتبدو الشواهد على الأهداف التي يجدها هؤلاء المفكرون في المسيحية معقدة، ويجادل الباحثون بأن الدين لا يخلق الأخلاق، ولكنه يوجهها نحو قضايا معينة.
يرى باحثون أن الأشخاص المتدينين أكثر عرضة للتمسك بالقيم الأخلاقية التي تحافظ على النظام الاجتماعي. تشمل هذه القيم الولاء، الامتثال، واحترام التقاليد والسلطة. كما أنهم أكثر عرضة لامتلاك قيم أخلاقية تعزز ضبط النفس.
لذلك، قد يعتقد المحافظون أن المسيحية يمكن أن تدعم النظام الاجتماعي الذي يشعرون بأنه مهدد بالزوال، وليست هذه فكرة جديدة، فقد استخدم الفراعنة المصريون الدين لدعم الاستقرار الاجتماعي. وحاليا، في الصين، يستخدم الرئيس شي جين بينغ الكونفوشيوسية لتحقيق هذه الأغراض.
ومع ذلك، يجد العديد من المثقفين المحافظين صعوبة في تصديق المعجزات والعناصر الغيبية في المسيحية؛ فإعادة السحر إلى العالم أمر صعب. (عرّف المفكر الألماني ماكس فيبر للحداثة باعتبارها "نزع السحر عن العالم" أو "نزع القداسة عن العالم" في إشارة للدين والإيمان).
"دين ثقافي مخفف"
ويعتقد بعض المثقفين المحافظين أن الغرب قد تبنى بالفعل نسخة خفيفة من المسيحية. كما يرى صاحب كتاب "دومينيون: صُنع العقل الغربي" (2019) المؤرخ توم هولاند.
يجادل هولاند أنه على الرغم من تراجع الإيمان الديني، تظل الأفكار المسيحية مركزية في الحضارة الغربية. ويرى أن الليبرالية -الفلسفة السياسية السائدة في الغرب- هي مسيحية علمانية. بالنسبة له، الأفكار الغربية الأساسية، مثل حقوق الإنسان العالمية، المساواة، والكرامة، تنبع من المسيحية.
من هذا المنظور، القيم الغربية الأخلاقية هي آثار المسيحية المتلاشية أو كما يقول هولاند "ظلال الجثة". هذا يجعل البعض يقلق من أن هذه القيم تفتقر للمنافحين عنها وقد لا تكون قادرة على توحيد المجتمع.
وربما يكون ذلك التحليل صحيحا؛ فالأبحاث حول "القيم المقدسة" تظهر أن بعض الأشخاص لديهم قيم سيدافعون عنها بغض النظر عن التكلفة، "وعندما تُنتهك القيم المقدسة، تتوقف أجزاء من أدمغتنا التي توازن فوائد وتكاليف أفعالنا عن العمل".
وإذ تفتقر الأخلاق غير المبنية على الأسس الدينية إلى القدسية اللازمة لتعزيز السلوك كما يأمل المحافظون، فقد تؤدي هذه الحالة بمثقفين قلقين على مستقبل مجتمعاتهم إلى التظاهر بالإيمان بالمسيحية أو إلى إيجاد حل أو طريقة للإيمان بها.
ويقول الأكاديمي المختص بعلم النفس مكارثي جونز إن مثقفين وشخصيات عامة يروجون للمسيحية لفوائدها المتصورة (الاجتماعية والسياسية وغيرها) بينما يدّعون الإيمان بها. بالنسبة لهم، ستصبح المسيحية "كذبة نبيلة" أي لأغراض وأهداف عملية مثل ضمان الاستقرار الاجتماعي، ويسمى ذلك ببساطة "تضليل".
إلى جانب المسائل الأخلاقية، من المرجح أن يفشل هذا النهج بشكل عملي. فرغم أنه يمكنك قبول أسطورة لأنك تعتقد أنها تعمل لصالحك، فإن استخدام القيم المقدسة لأغراض ذاتية يجعلها أقل قداسة ويقلل من قوتها.
الذين يلعبون بالنار المقدسة يخاطرون أيضًا بالاحتراق؛ فتبني المسيحية "ككذبة نبيلة" (من قبل غير المؤمنين بها) سيساند أولئك الذين يريدون التخلي عن الفصل بين الكنيسة والدولة.
ويشمل ذلك بعض الكاثوليكيين في الولايات المتحدة الذين يريدون من حكومتهم تعزيز القيم الكاثوليكية، لكن استخدام المسيحية لمحاربة الأنظمة الاستبدادية في الخارج قد يخلق استبدادا دينيا في الداخل.
إذن، ما الذي يمكن أن يحدث لإقناع المفكرين المحافظين المتشككين بالإيمان بالمسيحية؟ اقترح الفيلسوف الإيطالي جيامباتيستا فيكو (1668-1744) أن عصرنا بلغ من العقل والمصلحة الذاتية ما قد يحتاج إلى انهيار المجتمع لـ"بساطة بدائية" ليعود ظهور الإيمان مرة أخرى.
حل أقل كارثية هو الإدراك أن العديد من المسيحيين يشتركون بالفعل في نسخة مخففة من المسيحية، فربع المسيحيين البريطانيين الذين يعرفون أنفسهم كمسيحيين لا يؤمنون بأن يسوع قد تم إحياؤه.
هذه الشكوك ليست محدودة بالجماعات. بعض رجال الدين يشعرون بنفس الطريقة. في دراسة أجراها الفيلسوف والملحد الشهير دانيال دينيت في عام 2010، تم إجراء مقابلات مع رجال دين يشكون أو لا يؤمنون.
أوضح أحد القساوسة أن هناك العديد من رجال الدين الذين "إذا كنت ستحدد الأشياء الخمسة التي تعتقد أنها قد تكون أهم المعتقدات الأساسية للمسيحية، فإنهم سيرفضون كل واحد منها". ورفض وزير آخر الميلاد العذري وألوهية يسوع، ومع ذلك لا يزال يؤمن بالإله.
ويظهر هذا أن بعض الناس يرتاحون لرفض الادعاءات المركزية للمسيحية، بينما لا يزالون يشعرون بوجود فراغ في العالم ويعرّفون أنفسهم مسيحيين. ولكن عندما يحين وقت الشدة، هل ستعمل هذه المعتقدات كقيم مقدسة وتولد الفوائد المجتمعية التي يأمل المحافظون فيها؟!
للإشتراك في قناة ( اليوم برس ) على التلغرام على الرابط
https://telegram.me/alyompress
اقرأ ايضا :
اضف تعليقك على الفيس بوك