بمقدور الشخص أن يخمن ماذا يريد الحوثي. لكن الحوثي غير قادر، حتى الساعة، على إدراك ماذا يريد بالضبط. أو على الأقل: على شرح حقيقة ما يريده.
يقود الحوثي جماعة دينية مسلّحة تستند إلى فكرة مركزية "الحوثي مجدد النبوّة". قال نجل الراحل شرف الدين، الذي اغتاله تنظيم القاعدة في صنعاء بحسب وزارة الداخلية، إن لوالده الفضل في صياغة الفكرة على هذا النحو. أي فكرة تجديد النبوة. وأنه قرأ على موبايل والده الراحل مسجّات تخاطب الحوثي بهذا اللقب الإلهي.
هذه فكرة "سينتروفيوجال"، أي قوة طرد من المركز. سيتبقى الحوثي فقط، وعلى الدوام، في المركز. كما سيكون لك الحق في العيش، وفي الرفاه، ما دمت تعتبر المركز من اللامفكر فيه. يصعد الحوثي على المنصة، من وقت لآخر، ليتحدث عن التكفيرين والإقصائيين. أي أولئك الذين يطردون الناس من المركز. وينسى أن يقول إنه إنما يتحدث عن نفسه.
في محاولة منهكة كتب أحد أفراد الأوركيسترا الإعلامية الخاصة بالحوثي عن المرجعية الدينية للحوثي. قال إنه من السخف مناقشتها، مهما كانت تعقيداتها ومنطلقاتها. فما من سبيل لتغييرها. فضّل بدلاً عن ذلك: الخوض في نقاش المشروع السياسي.
ليس للحوثي مشروع سياسي. يكتفي بالمناورة الإعلامية عبر تأييد طرف سياسي أو آخر. أحياناً: مديح الدولة المدنية. أي تلك الدولة التي تتعارض قيمها الصلبة مع الفكرة المركزية التي يقوم عليها النظام الثقافي الحوثي، إجمالاً..
في المجمل، يتحرك الحوثي على هذا النحو: كتلة بشرية كبيرة بلا مشروع سياسي مدني. في القلب من هذه الكتلة هناك شمس كبيرة: المرجعية الدينية. وهي مرجعية مذهبية في الأساس، تشكل العقائد السياسية قرصها الصلب.
الحوثي نبيّ مقاتل. وإذا انتصر النبي سقطت نبوته، كما يقول الراحل القصيمي. فهو يتحول من البكّاء الذي ينحني على الضعفاء والمذنبين إلى الجبار، الذي يخضع الرقاب وينشر الخوف.
حين كان المؤسس لا يزال في مرّان كان يحدث مريديه عن العدل والتعايش. عندما اقترب من العاصمة قال إنه سيقاتل كل العالم. عندما كان في الجبل مع جماعة صغيرة من التلاميذ قال لهم إنه عندما يموت ستبقى كلماته. مات بعد ذلك، وامتلأ الجبل بالبندقية، ولم تدوّن الكلمات.
منذ أشهر يحاصر الحوثي مدينة عمران، وهي مدينة صغيرة يتجاور فيها الفقراء والبورجوازيون اللصوص. تعرّف الجماعة السلمية، نظرياً، بكونها تلك الجماعة التي لا تسارع إلى خوض الحروب، بل تقضي وقتاً طويلاً في البحث عن الطرق الآمنة للتعايش. الخطاب الإعلامي للحوثي يتحدث عن حروب كبيرة خاضها لأن مسلحين أطلقوا النار على دورية حوثية "ما حدث في همدان، وأرحب، كمثال".
الحوثي جماعة يمينية مخيفة، بلا عقل. مع مرور الأيام تكدس السلاح والأعداء، وتمتلئ بالكراهية. جاءت الجماعة من التاريخ، وتريد أن تكيف الحقل السياسي على مقاس التاريخ. لا يمكن الإحالة إلى خطاب حوثي، أو مفكر حوثي، استطاع أن يعالج المسألة الديموقراطية فكرياً. كما لا يوجد في أدبيات الحركة الحوثية أطروحات عميقة تدين الطبقية أو تناقش الرأسمالية، أو تشرح الشروط التي أنتجت المشهد اليمني الراهن. يكتفي الحوثي في كل خطاباته بالقول بأن سبب الانهيار التاريخي للأمة، إجمالاً، هو تجاهلها للولاية. أي لأنه لم يكن رئيساً منذ القدم. لا توجد أسباب أخرى، ولا شروح أكثر دقة من هذا. "راجع كل خطابات الحوثي"..
اختار الحوثي السلفية الخصم رقم واحد. أطاح بها. لقد واجهها في حرب مفتوحة. السلفية لا تجيد الحرب سوى عن طريق الخدعة، كالعمليات التفجيرية والاغتيالات "القاعدة مثالاً". يدرك الحوثي أن مشروعه الديني سينمو في فراغ المشروعات الدينية الأخرى، المنهزمة. لم تتدخل القاعدة لإنقاذ أبناء العمومة، السلفية الحجورية، لعوائق استراتيجية فيما يبدو. عوضاً عن ذلك أدانت الجيش اليمني لأنه تخاذل عن نصرة أهل السنة. كالعادة ذهب تنظيم القاعدة إلى صنعاء ليغتال الحوثي الذي لا يحمل السلاح.
تدفقت الموجة الحوثية بشكل أفقي في النجوع والجرود والقرى. الإصلاح، الحزب الديني، كان أكثر التشكيلات السياسية اليمنية توجسّاً من حركة الحوثي. من ناحية: يعلم الإصلاح جيداً ماذا يمكن للديانات أن تفعل! من ناحية أخرى: يعلم أن الحوثي، المتدين، قد يتسامح مع اللادينيين، لكنه لن يتسامح مع الحركات الدينية التي تنتج بضاعات منافسة.
يشعل الحوثي حرباً لن تنتج منتصرين. السمعة الخارجية لليمن وصلت حدوداً قصوى من السوداوية "عرضت قناة آر تي إل الألمانية تقريراً من صنعاء واصفة المدينة بأنها أخطر مكان في العالم". الحوثي يشارك في عزل اليمن عالميا، عزلها عن الكوكب. أصبحت بلداً بلا سفارات أجنبية، بلا شركات أجنبية، بلا مستثمرين أجانب، بلا خبراء أجانب، وبلا سيّاح. إنها الآن، بالمعنى العملي، شبيهة بغابة تقع على تخوم الكوكب، غابة غير مكتشفة. كما عزل الحوثي أهله في مرّان في كهوف خارج التاريخ ها هو يشارك في عزل اليمن كلّياً عن الحضارة البشرية.
كسب الحوثي ما يكفي من الأتباع، ومن الأعداء. في كل يوم يكسب عدواً جديداً وتابعاً جديداً، للدرجة التي ستجعل هزيمته مستحيلة، وكذلك انتصاره. بالمعنى الرياضي: الحوثية هي معادل موضوعي لتلاشي الدولة اليمنية واضمحلالها.
الذين آمنوا بالحوثي، بصرف النظر عن مضامين دعوته وتاريخها الأحفوري، لهم الحق الكامل في العيش الآمن. الذين يخافون من دعوته ومن خيوله لهم الحق الكامل في الحياة الآمنة، الحق في أن لا يسمعوا أزيز رصاصة واحدة في حياتهم.
ككاتب، وكطبيب، وكمواطن .. عندما أتخيل حجم الكارثة التي يسوقها اليمين الأكثر تطرّفاً في اليمن ممثلاً في "النبي المقاتل"، عندما أتذكر الحقوق الوجودية للطرفين: التابع والعدو، أفكر بأمر واحد فقط: ترسيم الحدود.
من صفحة الكاتب على الفيس بوك
للإشتراك في قناة ( اليوم برس ) على التلغرام على الرابط
https://telegram.me/alyompress
اقرأ ايضا :
اضف تعليقك على الفيس بوك