ربما يسمع الكثيرون بالشدة المستنصرية، المجاعة العظمى التي ضربت مصر لسبع سنوات متواصلة مع عهد الخليفة العباسي المستنصر بالله، في مستهل النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، حين تصحَّرت الأرض وهلك الناس، حتى إن الخليفة المستنصر نفسه أصابه الجوع كما تُشير بعض الروايات. لكن ما يجهله الكثيرون ربما أن سبب هذه المجاعة العظمى هو قيام ملك الأحباش بقطع ماء النيل عن مصر، وأنه لم يعدل عن رأيه ويسمح بتدفُّق النيل مرة أخرى إلا تحت ضغط البطريرك القبطي، بعد أن سقطت مصر لسنوات فريسة للعطش والجوع.
تردَّد هذا الرأي على نطاق أوسع في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، فذكر الراهب جور دانوس سنة 1330م أن سلطان مصر كان يدفع إتاوة للأحباش حتى يسمحوا بجريان ماء النيل إلى مصر، وحوالي الوقت نفسه ذكر ماريجونوللي أنه في استطاعة الأحباش أن يحبسوا ماء النيل عن مصر "وعندئذ تتعرَّض مصر للهلاك". وفي سنة 1384م ذكر المؤرخ سيمون سيجولي أنه إذا فتح ملك الحبشة مجرى نهر معين في بلاده فإنه "يُغرق القاهرة والإسكندرية وجميع أرض مصر". (1)
كانت ولا تزال مقولة المؤرخ اليوناني هيردوت "مصر هبة النيل" صالحة لتفسير الحياة في مصر، بل تفسير أسباب قيام الحضارة ونموها وارتقائها في هذا البلد العريق الذي يُعَدُّ من أقدم حضارات العالم. واليوم، مع بناء أثيوبيا لأكبر سد يُشكِّل خطرا مُحدقا على مصر الدولة والتاريخ والحضارة والبشر، يُخبرنا التاريخ أن هذه المحاولات ليست الأولى من نوعها، إذ هناك محاولات قديمة سعت فيها الحبشة إلى منع وصول مياه النيل إلى مصر، لا سيما إبان فترات الخلاف السياسي بين البلدين.
ارتبطت مصر بعلاقات دينية وسياسية مع الحبشة (إثيوبيا اليوم) منذ إسهام الكنيسة القبطية اليعقوبية (الأرثوذكسية) المصرية في دخول المسيحية إليها على يد أحد رجال الدين الإسكندريين ويُدعى فرومونتيوس في نحو عام 320م، وبعد أن نجح فرومونتيوس في مهمته، عيَّنه بطريرك الكنيسة المصرية آنذاك أثناسيوس بوصفه أول أسقف للكنيسة الحبشية التابعة للإسكندرية في منتصف القرن الرابع الميلادي. (2)، (3) .
لم تمر بضعة قرون على ذلك حتى عرفت مصر الإسلام سنة 20هـ/643م، فيما استقبلت الحبشة وفد المهاجرين الأولين من المسلمين في بدايات القرن السابع الميلادي عام 615م، فنزلوا عند النجاشي أصحمة ملك أكسوم الذي استقبلهم وأحسن جوارهم، بل الثابت أن النجاشي قَبِل دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم للإسلام في العام السادس من الهجرة، ولما توفي في العام التاسع من الهجرة النبوية صلى عليه النبي وأصحابه صلاة الغائب.(4)
كانت بلاد الحبشة إذن خليطا من المسلمين والمسيحيين على حد السواء، ومنذ القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي أصبحت مصر قبلة لمسيحيي الحبشة ومتجه أنظارهم، وفي الوقت ذاته كانت قبلة لمسلمي الزيلع (المسلمين في القرن الأفريقي والصومال)، يتجهون نحوها طلبا للعلم والنصرة منها، وذلك بعد سقوط بغداد في أيدي التتار سنة 656هـ، وانتقال مركز الثقل الإسلامي إلى القاهرة التي أُعلن فيها عن عودة الخلافة العباسية، في ظل دولة المماليك القوية، على أن المسيحيين كانوا هم الحاكمين للحبشة، وكان وجود المسلمين فيها تابعا للمملكة الحبشية المسيحية التي كانت تُتابع عن كثب أوضاع المسيحيين في مصر الذي ينتمون لمِلَّتهم من "اليعاقبة". (5)
دأب ملوك الحبشة على إرسال الرسائل إلى سلاطين المماليك في القاهرة يطالبونهم بحُسن معاملة النصارى في مصر، وعدم التضييق عليهم، أو التعرُّض لكنائسهم، وإلا تعرَّض المسلمون الأحباش إلى التعذيب والتنكيل، وقد صدق الأحباش في تهديداتهم تلك حين لم تكن مصر تسمع لرسائلهم أو توصياتهم بخصوص المسيحيين في مصر.
على أن اللافت للنظر أنه منذ القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي بدأ ملوك الحبشة في إطلاق نغمة جديدة في رسائلهم التهديدية إلى مصر، فلأول مرة نقرأ صراحة عن بناء سد يحول دون وصول النيل إلى مصر، وكان مما جاء في بعض تلك الرسائل أن "نيل مصر الذي به قوام أمرها وصلاح أحوال ساكنيها مجراه من بلادي، وأنا أسُدّه". في المقابل، استقبل سلاطين المماليك هذه الرسائل باستهزاء وسخرية بسبب الفارق الكبير بين القوتين آنذاك، حيث كانت سلطنة المماليك دولة عالمية لا يُدانيها في قوتها إلا دولة المغول، ولم يكن الأحباش يجرؤون على مجاراتهم أو التمدُّد في مناطقهم. (6)
على سبيل المثال، أرسل ملك الحبشة "جبره مصقل" (712-744هـ/1312-1344م) رسالة بهذا المعنى إلى السلطان الناصر محمد بن قلاوون في مصر يُهدِّده بقطع مياه النيل، وإيذاء المسلمين في الحبشة إذا لم تتعامل القاهرة مع الأرثوذكس بصورة لائقة؛ ولمَّا لم يتمكَّن جبره من منع النيل عن جريانه، فإنه نفَّذ تهديده باضطهاد مسلمي الحبشة، الأمر الذي جعل الناصر يُصدر مرسوما للبطريرك في مصر بأن يرسل إلى ملك الحبشة كتابا يأمره بالإقلاع عن إلحاق الأذى بمسلمي الحبشة، وهو ما امتثل له، فرضخ له ملك الحبشة في المقابل؛ لأن "لأوامر البِطريرك عنده ما لشريعته من الحُرمة" كما يذكر المؤرخ المعاصر لتلك الأحداث القلقشندي. (7)
ومع ذلك، استمر الشد والجذب بين المسلمين والمسيحيين في الحبشة، ففي سنة 826هـ/1423م، بلغ ملك الحبشة المسيحي أن السلطان المملوكي برْسباي أغلق كنيسة القيامة بالقدس، فما كان منه إلا أن صبَّ جام غضبه على رعاياه المسلمين، فقتل الرجال وسبى النساء والأطفال، وأغلق المساجد وهدمها، ثم هاجم مملكة المسلمين المجاورة في "جبرت" فهزمها، ونكَّل بأهلها. وفي سنة 833هـ/1430م حدث صدام بين المملكتين المسيحية والإسلامية بالحبشة، كان النصر فيه في جانب المسيحيين الأقوياء، حتى إنهم أسروا اثنين من أبناء ملك المسلمين. (8)
عُرف عن الملك الحبشي زرء يعقوب بن داود (1434-1468م/837-872هـ) قسوته الشديدة في اضطهاد المسلمين في بلاده، وكان أكثر كراهية لمصر من سابقيه، وقد حملته تلك الكراهية على أن يُفكِّر في فصل الكنيسة الحبشية عن الكنيسة المصرية ويربطها بكنيسة روما؛ حتى يضمن المساعدة الروحية للبابا ومساندة الدول الأوروبية، ويُرجَّح أن زرء يعقوب أصدر فعلا قرارا بربط كنيسة الحبشة بالكنيسة الرومانية؛ ولهذا السبب سمح له البابا بإقامة دير حبشي في روما. (9)
وبعد أن اطمأن زرء يعقوب إلى إتمام التحالف الأوروبي الحبشي، أرسل رسالة إلى سلطان مصر آنذاك الظاهر جَقْمَق، وصلت إلى القاهرة في رجب سنة 847هـ/نوفمبر 1443م، وكان مما جاء فيها: "ليس يخفى عليكم ولا على سلطانكم أن بحر النيل ينجرُّ إليكم من بلادنا، ولنا الاستطاعة أن نمنع الزيادة التي تُروى بها بلادكم عن المشي إليكم؛ لأن لنا بلادا نفتح لها أماكن فوقانية يتصرَّف فيها إلى أماكن أُخر قبل أن تجيء إليكم، ولا يمنعنا عن ذلك إلا تقوى الله تعالى والمشقة على عباد الله، وقد عرضنا على مسامعكم ما ينبغي إعلامه، فاعلموا أنتم ما يلزمكم وبما يُلقي الله في قلوبكم، ولم يبقَ لكم عذر تبدونه". (10)
كانت هذه الرسالة تكرارا لرسائل ملوك الحبشة المرسلة إلى مصر، التي طالما اتخذت من النيل ورقة للضغط على سياسة مصر تجاه الأقليات، وكان من الطبيعي، مع فارق القوة العسكرية والسياسية بين الدولتين، أن يرفض السلطان الظاهر جقمق ما جاء من ادعاء واتهام وتهديد، غير أنه رأى من حُسن السياسة ألا ينساق وراء عاطفة الغضب والتجاهل، صيانة وضمانا لأمن مسلمي الحبشة المضطهدين، فأرسل كتابا إلى زرء يعقوب، بصحبة سفيره يحيى بن أحمد بن شادبك، ومعه هدية. (11)
كانت الرسالة الدبلوماسية المصرية تتضمَّن أسباب قيام القاهرة بالتضييق على بناء الكنائس في ذلك الوقت، مُبرِّرةً الأمر بكون "نصارى الديار المصرية قد كثر تعدّيهم واستطالتهم في البناء وإحداث الكنائس (بدون تصريح من الدولة)". لم يقبل زرء يعقوب تبريرات السلطان جقمق، وقرَّر منع السفير يحيى بن أحمد من العودة إلى القاهرة، وفوق ذلك أمر بقتل أحد ملوك المسلمين الأحباش المأسورين لديه؛ وهو شهاب الدين أحمد بِدْلاي أمام السفير المملوكي يحيى بن شادبك إمعانا في إهانة المماليك، لكن بعد شد وجذب عاد السفير المملوكي إلى القاهرة بعد احتجازه لأربع سنوات كاملة. (12)، (13)
ظلَّت العلاقات السياسية متوترة بين البلدين، وفي سنة 852هـ/1448م قرَّر السلطان قطع العلاقات الدينية بين الجانبين، حيث استدعى جقمق بطريرك النصارى في مصر إلى مجلسه بحضرة القضاة الأربعة، ويذكر المؤرخ ابن إياس السبب من وراء هذا الاستدعاء فيقول: "فأمر بكتابة إشهاد عليه أنه لا يكتب إلى ملك الحبشة بنفسه ولا بوكيله لا ظاهرا ولا باطنا، ولا يولّي أحدا في بلاد الحبشة لا قسيسا ولا أعلى منه ولا أدنى إلا بإذن من السلطان، وأنه متى خالف ذلك انتقض عهده، وضُربت عنقه". (14)
في ذلك التوقيت، كان زرء يستعد لغزو الأراضي المملوكية ومنها بلاد الحجاز، ففي ربيع الآخر 854هـ/1450م وصل إلى مصر قاضي سواكن (على ساحل البحر الأحمر في السودان حاليا)، وأبلغ السلطان جقمق أن ملك الحبشة أعدَّ أسطولا مُكوَّنا من مئتي سفينة لغزو سواحل البلاد الحجازية، فضلا عما أزمع عليه من قطع النيل وتعويقه بحيث لا يصل إلى مصر، وتكرَّر هذا الخبر مرة أخرى في شوال من العام نفسه؛ لكنّ أيًّا من هذه التهديدات لم يقع في النهاية. (15)
فيما يبدو إذن، فإن فكرة بناء سد يمنع وصول مياه النيل إلى القاهرة ليست وليدة التاريخ الحديث والمعاصر، بل كانت لها جذورها التاريخية القديمة، إلى درجة أن بعض المؤرخين رجَّحوا أن تكون الشدة المستنصرية التي وقعت في العصر الفاطمي وقضت على عشرات الآلاف من المصريين كانت من فعل الأحباش الذين حالوا دون وصول مياه النيل في تلك الفترة. ورغم أن تهديدات الحبشة بقطع المياه عن مصر لم تنقطع خلال القرون التالية، فإن قوة الدولة المصرية ردعتها عن تنفيذ تهديداتها، واليوم مع بناء إثيوبيا للسد الذي يُهدِّد بتقليص حصة مصر من المياه، يواجه المصريون فصلا مُكرَّرا من كفاحهم الطويل للحفاظ على تدفُّق النيل، الذي كان -وسيظل- شريان الحياة لهذا البلد العريق.
—————————————
المصادر
W. langar: The Diplomacy of Imperialism, p.103.
عبد الله عبد الرازق إبراهيم: الحبشة، ضمن موسوعة التاريخ الإسلامي1/693، 694.
إبراهيم علي طرخان: الإسلام والممالك الإسلامية بالحبشة في العصور الوسطى ص13.
ابن هشام: السيرة النبوية 1/321- 325.
محمد جمال الدين سرور: دولة بني قلاوون ص156.
النويري: نهاية الأرب في فنون الأدب 33/198.
القلقشندي: صبح الأعشى 5/308.
مديحة الشرقاوي: برسباي وسياساته الداخلية والخارجية ص135.
طرخان: مصر في عصر دولة المماليك الجراكسة ص155.
السخاوي: التبر المسبوك في ذيل السلوك 1/167، 168.
ابن إياس: بدائع الزهور في وقائع الدهور 2/239.
السخاوي: التبر المسبوك 1/170.
المصدر السابق.
ابن إياس: بدائع الزهور 2/264.
ابن تغري بردي: حوادث الدهور 1/264، 298.
للإشتراك في قناة ( اليوم برس ) على التلغرام على الرابط
https://telegram.me/alyompress
اقرأ ايضا :
اضف تعليقك على الفيس بوك