في ليلة الثلاثاء 21 يناير/كانون الثاني، رَسَت السفينتان الروسيتان "إسبرطة" و"إسبرطة 2" في ميناء مدينة طرطوس السورية، الذي طالما تحرَّكت فيه القطع البحرية الروسية دون عوائق طيلة العقد الماضي الذي شهد التدخُّل العسكري الروسي في سوريا.
كانت السفينتان قد بقيتا واقفتيْن قُبالة السواحل السورية في انتظار الإذن بالرسو على مدار أيام، إذ يبدو أن السلطات الجديدة تعنَّتت في إصدار الإذن بينما جرت مباحثات طويلة بين دمشق وموسكو. ولكن في ليلة الثلاثاء، رصدت مواقع الملاحة البحرية تحرُّك السفينتيْن بهدوء نحو الميناء، فيما بدا أنه إشارة إلى تكلُّل المباحثات بالنجاح.
لا يبدو واضحا ما إن كان الرسو جزءا من تجدُّد التعاون بين دمشق وموسكو بعد تولِّي السلطات السورية الجديدة زمام الأمور، أم أنه جزء من تجهيزات روسية للانسحاب النهائي من طرطوس، ولكن الكثير من المحللين يُرجِّحون السيناريو الثاني.
إذ انتشرت أنباء بأن الإدارة السورية الجديدة في دمشق تنوي بالفعل إلغاء الاتفاقات البحرية مع موسكو، التي سمحت لها باستخدام ميناء طرطوس في السابق، وأن السفينتين الروسيتين لم تأتيا إلا لتفريغ الميناء من القطع العسكرية الروسية التي تكدَّست هناك منذ سقوط نظام الأسد، بانتظار الخروج النهائي من سوريا، حليف موسكو الوثيق طيلة نصف قرن.
موسكو-دمشق: هل يُغلق الطريق؟
في أعقاب عملية "ردع العدوان" التي شنَّتها المعارضة السورية في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 وما تبعها من سقوط سريع للنظام السابق، تكون موسكو قد تلقَّت ضربة كبرى في أهم نقاط نفوذها خارج حدود الاتحاد السوفياتي السابق، حيث كانت القوات الروسية تنتشر على نطاق واسع في مناطق مختلفة من سوريا قبل سقوط الأسد، أهمها في القاعدة البحرية بمدينة طرطوس على الساحل السوري، وقاعدة حميميم الجوية في محافظة اللاذقية.
ومع أن موسكو لا تزال ترسل برسائل إيجابية إلى الإدارة السورية الجديدة، وتسعى لبناء علاقات جيدة معها، لكن صور الأقمار الصناعية التي نشرتها هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) أظهرت أن روسيا سحبت بالفعل العديد من قطعها البحرية الراسية سابقا في قاعدة طرطوس، كما قالت الاستخبارات الأوكرانية إن روسيا تخطط للخروج بالكامل من طرطوس بحلول نهاية فبراير/شباط المقبل.
ويبدو أن إدارة بوتين لا تراهن كثيرا على إمكانية تحسين علاقتها مع السلطة الجديدة في سوريا إلى حدٍّ يسمح لها بإبقاء قواتها في سوريا بكامل عتادها، فضلا عن المخاطر العالية التي باتت تكتنف البيئة الأمنية هناك. كما يتوقع كثيرون أن تكون السلطة الجديدة أكثر حرصا على تحسين علاقتها بالغرب بغية رفع العقوبات المفروضة على سوريا في السابق، وزيادة فرص تحسُّن الاقتصاد.
أما روسيا التي تعاني من وطأة اقتصاد الحرب منذ دخولها أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، فليس لديها الكثير مما يمكن أن تعطيه لسوريا في الوقت الحالي، ومع ذلك فإن المآلات النهائية لمباحثات موسكو مع السلطة الجديدة في دمشق لا يمكن توقُّع نتائجها الآن بشكل حاسم.
في كل الأحوال، من المرجح أن تؤثر هذه الانتكاسة الجيوستراتيجية لروسيا في شرق المتوسط تأثيرا سلبيا عميقا على نفوذها في أفريقيا.
فقد قال نيكولاي سوخوف، الخبير في شؤون الشرق الأوسط بمعهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية (مؤسسة بحثية مقرها موسكو)، إن سوريا "نقطة انطلاق إلى أفريقيا" في مقال نُشر في أغسطس/آب 2024، وحذَّر من أن روسيا قد تكافح بدون نفوذها في سوريا من أجل تنفيذ رحلات جوية مباشرة منتظمة إلى مسارح عملياتها العسكرية الأفريقية.
ويبدو أن روسيا بدأت فعليا رحلة البحث عن بدائل تعوض لها القيمة اللوجستية التي كانت تقدمها قواعدها في سوريا. فما تلك البدائل المحتملة؟ وما حدود ما يمكن أن تقدمه لروسيا؟ وقبل ذلك؛ ما خريطة المصالح الروسية في أفريقيا ونطاق نفوذها في القارة؟
طموحات قديمة.. وواقع معقد
لم تكن أفريقيا يوما غائبة عن أذهان القادة والمنظّرين الإستراتيجيين في موسكو.
لم تكن أفريقيا يوما غائبة عن أذهان القادة والمنظّرين الإستراتيجيين في موسكو، فمنذ انتصار السوفيات في الحرب العالمية الثانية، الذي تزامن مع تراجع هيمنة القوى الاستعمارية الأوروبية وتصاعد النزعات الوطنية والتحررية في شتى أنحاء أفريقيا، عمد الاتحاد السوفياتي إلى بناء علاقات وثيقة مع حركات التحرر الوطني والقادة الجدد للدول الأفريقية حديثة الاستقلال. وقد انجذبت العديد من الدول الأفريقية في ذلك الحين إلى الأيديولوجيا الماركسية باعتبارها نقيضا للإمبريالية الغربية.
في مراحل مختلفة من خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كان لدى الاتحاد السوفياتي قوات بحرية في الصومال وإثيوبيا ومصر وليبيا وتونس وغينيا، بالإضافة إلى عدد من المطارات العسكرية الكبيرة، كما تمركزت مجموعات من الخبراء العسكريين السوفيات في الجزائر وأنغولا ومصر وموزمبيق والصومال وإثيوبيا.
ولكن منذ الثمانينيات، ونتيجة تراجع الاقتصاد الداخلي السوفياتي من جهة، وتحسُّن العلاقات مع الغرب من جهة أخرى، تراجع الاهتمام السوفياتي بأفريقيا.
وبعد تفكك الاتحاد في التسعينيات، افتقرت روسيا إلى الموارد والإرادة اللازمة لمواصلة لعب دورها بوصفها قوة عظمى عالمية، فأغلقت العديد من سفاراتها وقنصلياتها ومراكزها الثقافية في أفريقيا، بحسب تقرير صادر عن البرلمان الأوروبي عام 2019.
ومنذ بداية القرن الحادي والعشرين، حدث تحوُّل هائل في الإستراتيجية الروسية تجاه أفريقيا بالتزامن مع صعود الرئيس فلاديمير بوتين للحكم عام 2000، حيث تبنَّى الرئيس الجديد سياسة خارجية أكثر حزما تجاه التنافس الجيوسياسي مع الغرب، بما في ذلك إحياء العلاقات التاريخية مع أفريقيا، إذ يعتقد بوتين أن روسيا تعرضت للغُبن في تسويات الحرب الباردة، ولم تحصل على ما يكافئ جهودها وتاريخها في القارة الأفريقية، في حين بقيت القوى الاستعمارية القديمة تحظى بالنفوذ هناك.
كانت جولة الرئيس الروسي السابق دميتري مِيدفيديف عام 2009 في 4 دول أفريقية بمنزلة نقطة فاصلة في مسار عودة اهتمام موسكو بالقارة. ومنذ ذلك الحين، استخدمت روسيا حزمة من الأدوات العسكرية والأمنية والاقتصادية لإعادة بناء نفوذها تدريجيا.
ورغم أن روسيا الحديثة، على العكس من الاتحاد السوفياتي، لا تمتلك قدرات تجعلها ندا للقوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين، فإنها استغلت بمهارة العديد من الفرص بشكل مَكَّنها من تحقيق حضور فعّال في كثير من دول القارة، وتفعيل رؤى جيوستراتيجية جديدة دفعتها للإبحار نحو أفريقيا، ومواجهة القيود التي تواجه تحقيق أهدافها في القارة.
رحلة استعادة المكانة
أدرك بوتين أن التنافس الجيوسياسي مع الغرب قد يتجه نحو مواجهة حتمية.
يقول كثير من المنظرين في موسكو إن جانبا من اختلال ميزان الردع الروسي تجاه الغرب يرجع إلى الطريقة المجحفة التي جرت بها تسويات نهاية الحرب الباردة، حيث أظهرت وثائق رُفعت عنها السرية من الأرشيف القومي الأميركي أن الرئيس السوفياتي السابق، ميخائيل غورباتشوف، كان قد تلقى ضمانات أمنية شفهية من الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب ووزير خارجيته جيمس بيكر مفادها أن حلف شمال الأطلسي (الناتو) لن يتوسع باتجاه الشرق، وذلك مقابل موافقة روسيا على الوحدة بين ألمانيا الشرقية والغربية.
بيد أن غورباتشوف لم يهتم بطلب تدوين هذه الوعود في وثيقة مكتوبة موقَّع عليها، كي تصبح ملزمة لأطرافها في المستقبل. وقد بدت عواقب هذه التسويات الهشة حين أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش الابن في زيارة إلى كييف عام 2008، قبل أيام من قمة بوخارست لدول الناتو، عن دعمه المطلق لمنح أوكرانيا وجورجيا خطة عمل العضوية في الحلف، التي تُعد الخطوة التمهيدية للعضوية الكاملة.
ويبدو أن بوتين أدرك حينها أن التنافس الجيوسياسي مع الغرب قد يتجه نحو مواجهة حتمية في المستقبل، كما أظهرت التقديرات الروسية الإستراتيجية أن ثمة نقاط ضعف شديدة الخطورة تكتنف قدرات موسكو، ويتمثل أهمها في اختلال توازن القوى البحرية بين روسيا وقواعد الناتو في البحر الأسود وخاصرته الرخوة في البحر المتوسط، وفي حال نشوب المواجهة بين الطرفين فإن بإمكان الناتو عزل روسيا عن العالم وعن خطوط التجارة البحرية التي تعتمد عليها موسكو.
من هُنا تطورت الإستراتيجية الروسية نحو تعزيز حضورها البحري في البحر الأسود والمتوسط وسواحل أفريقيا، وهو هدف بات حيويا في نظرها لردع محاولات الناتو تهديد أمنها في شرق أوروبا من جهة، وتوفير مدخلات اقتصادية مهمة تزيد بشكل فعال من محصلة قدراتها الجيوسياسية. وقد بدأت رحلة بوتين في البحث عن قاعدة عسكرية بحرية من ليبيا، حيث وعد القذافي موسكو عام 2008 بإمكانية إقامة قاعدة بحرية في مدينة بنغازي، لكن المشروع لم يكتمل رغم ما قدَّمته موسكو من إغراءات اقتصادية لتحسين علاقتها بالقذافي، من بينها إسقاط ديون ليبيا البالغة 5 مليارات دولار.
وفي عام 2013، سعت روسيا للاتفاق مع جيبوتي على تأجير قاعدة عسكرية بحرية، لكن الولايات المتحدة مارست ضغوطا على الأخيرة منعتها من إتمام الاتفاق، فاتجهت روسيا لطلب إنشاء القاعدة في 6 دول أفريقية أخرى هي السودان ومصر وأفريقيا الوسطى وإريتريا ومدغشقر وموزمبيق.
وبعد أربعة أعوام، وقَّعت روسيا اتفاقية مع السودان لإنشاء قاعدة إستراتيجية في بورتسودان على البحر الأحمر، لكن سقوط نظام عمر البشير عام 2019، مع تعقُّد الأوضاع السياسية والأمنية في البلاد وتعثر عملية الانتقال الديمقراطي، أدى إلى وقف تنفيذ المشروع.
ولا تمتلك روسيا حتى الآن أي قاعدة عسكرية في أفريقيا بصورة رسمية، ولكن بحسب الوكالة السويدية لأبحاث الدفاع (تابعة للحكومة السويدية)، فإن روسيا لديها اتفاقيات تعاون عسكري مع 36 دولة أفريقية، وُقِّعت 6 منها عامي 2021 و2022؛ مع إثيوبيا والجابون وموريتانيا ونيجيريا عام 2021، ومع مدغشقر والكاميرون عام 2022.
تتراوح تلك الاتفاقيات بين اتفاقيات ذات بنود عمومية وبروتوكولية، واتفاقيات أخرى أكثر تحديدا تتضمن بنودا مثل توريد الأسلحة، وحقوق الوصول إلى الموانئ البحرية والقواعد الجوية، وتدريب الضباط الأفارقة في الأكاديميات العسكرية الروسية، واستضافة المستشارين العسكريين الروس.
وإضافة إلى ذلك، تكشف الأرقام عن أن روسيا باتت هي المورد الرئيسي للأسلحة في أفريقيا، وأن أكثر بلديْن شراءً للسلاح الروسي في القارة هما الجزائر ومصر، اللتان اشترتا أسلحة روسية بقيمة 8 مليارات دولار و3.1 مليارات دولار -على الترتيب- في الفترة بين عامي 2009-2018.
في المجمل، قدَّمت روسيا نحو 44% من واردات القارة العسكرية بين عامي 2017-2021 وفقا لقاعدة بيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، مع اتجاه تصاعدي واضح من 1.1 مليار دولار من الصادرات الروسية عام 2009 إلى ضِعْف هذا المبلغ بعد 10 سنوات (2.1 مليار دولار).
هناك العديد من العوامل التي تمنح روسيا ميزة تنافسية بوصفها موردا للأسلحة، فهي غالبا ما تكون رخيصة نسبيا، ورغم تفوُّق بعض الأسلحة الأميركية عليها تكنولوجيًّا، يُعد السعر المناسب ميزة مهمة للدول الأفريقية التي يعاني معظمها من الصعوبات المالية. وبخلاف الفوائد الاقتصادية لروسيا، تساعد مبيعات الأسلحة في بناء النفوذ الجيوسياسي في البلدان المشترية، ففي بعض الحالات، تكون الأسلحة جزءا من صفقة أكبر.
على سبيل المثال، قال تقرير للبرلمان الأوروبي إن زيمبابوي منحت روسيا امتيازات تعدين البلاتين الرخيصة في مقابل توريد طائرات مروحية، كما ضمنت روسيا وصولا مربحا إلى الموارد المعدنية في جمهورية أفريقيا الوسطى مقابل شحنات من الأسلحة.
بدائل غير رسمية
في مسار موازٍ للعلاقات الرسمية الروسية، وجَّهت روسيا العديد من الشركات الأمنية والعسكرية المرتبطة بها لإنشاء تعاقدات مع الحكومات الأفريقية تتضمن تزويدها بالخدمات العسكرية. ووفقا لمؤسسة "راند"، أجرت شركات عسكرية خاصة مرتبطة بروسيا عمليات في 16 دولة أفريقية في الفترة 2005-2020.
وكان حضورها أكثر فعالية في جمهورية أفريقيا الوسطى، التي نُشِر عنها تقرير موسَّع العام الماضي، والسودان وجنوب السودان وليبيا والجابون ومدغشقر. وقد قامت بكل هذه العمليات العسكرية شركة "فاغنر" وشركات أخرى تعمل تحت مظلتها.
بعد وفاة قائد شركة "فاغنر"، يفغيني بريغوجين، في أغسطس/آب 2023، عقب عملية تمرد على الكرملين، جرت إعادة هيكلة للشركة وتسميتها بـ"الفيلق الأفريقي" لتكون تابعة مباشرة لوزارة الدفاع الروسية تحت إشراف نائب وزير الدفاع. وتتوزع قوات الفيلق حاليا، بشكل معلن، بين خمس دول أفريقية هي مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وليبيا.
ستدفع هزيمة موسكو في سوريا بكثير من الشكوك لدى القادة الأفارقة حول قدرتها على توفير الأمن لهم بشكل حاسم ودعم استقرار أنظمتهم.
بعد قرابة عقدين من العمل الحثيث واستغلال الفرص، أصبحت أفريقيا أحد الأركان المهمة لإستراتيجية روسيا العالمية. وبحسب مؤسسة "جيوبوليتيكال فيوتشرز"، تتربح موسكو نحو مليار دولار سنويا نظير عملياتها في جمهورية أفريقيا الوسطى وحدها، التي تشمل التجارة غير المشروعة في الذهب والماس والأخشاب الصلبة الثمينة.
كما تُعَد إدارة روسيا لحقول النفط في ليبيا والسودان مصدرا مهما للعملة الأجنبية، وتساعد موسكو في التحايل على العقوبات الغربية. وقد تُرجِم هذا الحضور إلى نفوذ سياسي بين الدول الأفريقية، التي بدت مترددة إلى حدٍّ كبير في إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا رغم الضغوط الغربية، بل وأيَّد بعضها الرواية الروسية، التي تقول إن موسكو إنما تواجه مساعي الهيمنة الغربية في محيطها الجيوسياسي.
بحسب المؤسسة نفسها، أصبحت أفريقيا (بالإضافة إلى آسيا الوسطى) مصدرا رئيسيا للعمالة في روسيا، التي تواجه فجوة متزايدة في أعداد الأيدي العمالة المتاحة في البلاد. كما جُنِّد المهاجرون الأفارقة للعمل في مصانع الطائرات المُسيَّرة والذخيرة الروسية، التي تُشكِّل أهمية حيوية لجهود موسكو الحربية.
وأخيرا، أصبحت منطقة الساحل ووسط أفريقيا وسيلة يمكن من خلالها لروسيا تهديد الجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي، علاوة على أن القوات العسكرية الروسية والصواريخ المنتشرة في ليبيا تُعَد أداة ذات قيمة عالية لممارسة الضغوط على الحكومات الأوروبية.
يظهر مدى التباين في نمط سياسات روسيا تجاه أفريقيا بالمقارنة مع الاتحاد السوفياتي، إذ تسير موسكو وفق إستراتيجية "انتهازية" إلى حدٍّ كبير من أجل اقتناص الفرص التي تدر عائدا أمنيا وماليا سريعا، مما يجعلها تكتفي أحيانا بوجود غير رسمي وغير مقنن وغير مستدام بطبيعة الحال. وقد يعود جزء كبير من ذلك إلى القيود التي تفرضها محدودية الموارد الروسية مقارنة بالاتحاد السوفياتي.
إبان سنوات الحرب الباردة، حين أبحر الاتحاد السوفياتي تجاه أفريقيا، فإنه نظر إلى أفريقيا بوصفها ساحة مهمة في الصراع الأيديولوجي العالمي مع الغرب. ونتج عن ذلك توجيه مئات من المستشارين السوفييت إلى دول أفريقيا، لتعميق علاقاتها مع الاتحاد وتجذير التوجهات الاشتراكية لدى النخب السياسية والعسكرية في الدول حديثة الاستقلال.
وقد اعتُبرت المنح التعليمية أداة مهمة لبسط نفوذ الاتحاد خارج حدوده، فبدءا من عام 1957، استقبل الاتحاد السوفياتي أعدادا متزايدة من الطلاب الأفارقة من خلال مؤسسات تعليمية أُسست خصوصا لهذا الغرض، مثل "الجامعة الروسية لصداقة الشعوب"، التي سُميت لاحقا باسم المناضل الكونغولي "باتريس لومومبا". وعملت هذه المؤسسات على خلق مجتمعات طلابية أفريقية في مدن الاتحاد السوفياتي لتكون لاحقا بمنزلة قنوات لنشر الأفكار الاشتراكية وتوطينها في القارة.
لكن هذه الأبعاد غائبة عن سياسة موسكو الحديثة، التي تعتمد على المصلحيّة البحتة في بناء العلاقات الخارجية بفجاجة، وتتخلى عنها أيضا للدوافع ذاتها، فيما يمكن أن يُطلَق عليه "صداقة الأنذال". وهو ما سمح لها أحيانا باقتناص كثير من الفرص وإدارتها بشكل مرن وفعّال في أفريقيا، متغلبة في ذلك على محدودية الموارد مقارنة بالولايات المتحدة أو الصين، لكنها في الوقت نفسه تعمل وفق نمط قصير الأمد، فيصبح نفوذها هشًّا وغير مستدام مع أي تحوُّلات كُبرى، كما أثبت حضورها في سورياا ذاتها.
تحدي الصورة والإمكانية
منذ أن حسمت روسيا المعركة مع المعارضة السورية المسلحة في حلب عام 2016، قدمت نفسها باعتبارها شريكا "موثوقا به"، يمكن للدول التي تواجه حالات تمرد أو اضطرابات داخلية الاستعانة به. وعلى إثر ذلك عززت روسيا وجودها العسكري في ليبيا، وتبعتها شركات عسكرية خاصة من مجموعة "فاغنر" عام 2018، علاوة على خدمات أمنية قدَّمتها لعدد من النظم الاستبدادية.
وفقا لمجلة "فورين بوليسي" الأميركية، كانت قدرة روسيا على توريد المواد الحربية والأفراد إلى ليبيا تعتمد بالأساس على امتلاك موطئ قدم دائم في سوريا، حيث ساعدت قواعدها هناك في عمليات إعادة الإمداد وصيانة المعدات وتسهيل تناوب الأفراد في ليبيا. كما أن استخدام موسكو لسوريا بوصفها نقطة انطلاق جوية كان أمرا بالغ الأهمية، فقد سمحت الرحلات الجوية المنتظمة من منطقة اللاذقية السورية إلى القواعد التابعة لخليفة حفتر في الخادم والجفرة بنقل سلس للطائرات إلى المطارات الليبية.
مع توسع البصمة الإستراتيجية لروسيا في أفريقيا جنوب الصحراء، توسَّعت الأهمية اللوجيستية لسوريا أيضا. فقد اعتمد التدخل العسكري لمجموعة "فاغنر" في مالي، الذي بدأ في أواخر عام 2021، على القواعد الروسية في سوريا، وكان بمنزلة بوابة للانتشار على نطاق أصغر إلى بوركينا فاسو عام 2023، والنيجر عام 2024.
وعندما اندلعت حرب السودان في أبريل/نيسان 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، سمح اتصال جوي بين سوريا وليبيا والسودان بنقل صواريخ أرض-جو روسية إلى الدعم السريع.
ويُقدِّر خبراء عسكريون أنه بدون الوصول إلى قاعدة حميميم الجوية، فإن الحليف الوحيد لروسيا في أفريقيا الذي يمكن الوصول إليه بالطائرات دون الحاجة إلى التزوُّد بالوقود سيكون ليبيا، وحتى هذا قد يكون صعبا بالنظر إلى أنه يتطلب الطيران مباشرة فوق المجال الجوي لتركيا، التي تربطها بروسيا علاقات معقدة ومتقلبة، وبالأخص في الملف الليبي.
من جهة أخرى، سوف تدفع هزيمة موسكو في سوريا بكثير من الشكوك لدى القادة الأفارقة حول قدرتها على توفير الأمن لهم بشكل حاسم ودعم استقرار أنظمتهم. وقد يتضرر الاقتصاد الروسي نفسه كثيرا نتيجة مآلات سقوط الأسد على تصوُّرات الأنظمة الاستبدادية المتحالفة مع موسكو. فوفقا للخبير في العلاقات الدولية صموئيل راماني، وفَّرت احتياطيات الذهب والماس في أفريقيا مصدرا حيويا للعملة الصعبة لروسيا.
وفي أثناء التحضيرات المباشرة لغزو أوكرانيا عام 2022، سافر ما لا يقل عن 16 طائرة محملة بالذهب من السودان إلى روسيا عبر سوريا. وبدون أن تعمل سوريا بوصفها نقطة عبور لعمليات استخراج المعادن هذه، قد ترتفع تكلفة تهريبها إلى روسيا. ومن ثم فإن الزخم التجاري الذي غذَّى تجارة كُبرى بلغت 24.5 مليار دولار مع أفريقيا سوف ينهار.
هل من بديل أمام موسكو؟
من المرجح أن تكون ليبيا أول الخيارات لتعويض سوريا.
تبدو خيارات موسكو لتعويض سوريا محدودة للغاية، ولكن من المرجح أن تكون ليبيا أول تلك الخيارات، فعلى مدار عام 2024، وسَّعت موسكو من وجودها العسكري هناك، حيث جدَّدت مدارج قاعدتها الجوية لتمكين طائرات الشحن من الهبوط في البلاد.
وقد مُنحت روسيا حقوق الرسو الدائم في ميناء طبرق مقابل المساهمة في تطوير البنية الأساسية للميناء. وأدى اتفاق دفاعي أُبرِم عام 2023 بين روسيا وقوات حفتر إلى إحياء التكهنات حول بناء قاعدة روسية في طبرق.
ورغم هذه الاحتمالات التي لا يمكن الجزم بها، ثمة العديد من العقبات التشغيلية التي تَحُول دون استبدال ليبيا بسوريا بوصفها مقرا لإعادة الإمداد للقوات الروسية في أفريقيا، حيث يرجح خبراء عسكريون أن طائرات الشحن الفارغة فقط ستكون هي القادرة على السفر من روسيا إلى ليبيا دون إعادة التزود بالوقود، وأن المركبات المحملة الثقيلة سوف تتطلب توقفات متعددة للقيام بهذه الرحلة، ومن ثم فإن إدارة عمليات الإمداد لأفريقيا عبر ليبيا ستكون مكلفة للغاية وغير مستقرة.
كما أن عدم اليقين بشأن توازن القوى في ليبيا على المدى الطويل يقوِّض من فرص موسكو لبناء قاعدة مستقرة هناك، فإذا جرى إقصاء حفتر من قِبَل منافسيه في طرابلس، أو إذا تقدمت ليبيا نحو المصالحة الوطنية وإجراء الانتخابات، فقد تجد روسيا نفسها في مأزق أمام سلطة جديدة لا تحمل التوجهات نفسها.
من غير المرجح أيضا أن تتمكن روسيا من بناء قاعدة بحرية على ساحل البحر الأحمر السوداني لتحل محل قواعد سوريا. فمنذ أن وقَّعت موسكو مسودة اتفاق مع الخرطوم عام 2020 بشأن بناء "مركز دعم لوجستي" في بورتسودان، لم يحدث أي تقدم ملموس، خاصة بعد انهيار الأوضاع الأمنية حاليا، وليس من المتوقع أن يحدث تغير جوهري وسريع في هذا السياق قريبا.
فضلا عن أن التقديرات تشير إلى أن روسيا لن تتمكن إلا من نشر ما يصل إلى أربع سفن بحرية في بورتسودان مقارنة بـ11 في طرطوس، وستكون إعادة التزود بالوقود أقل كفاءة بكثير.
في الجزائر، كانت روسيا قد أعربت سابقا عن رغبتها في بناء ميناء على سواحلها. وقد يكون هذا وقتا جيدا لبدء المحادثات، بالنظر إلى غضب الجزائر إزاء موقف الاتحاد الأوروبي بشأن نزاع الصحراء الغربية وانتقاده للرئيس الجزائري. ومع ذلك، من غير المرجح أن تخاطر الجزائر بمجمل شراكاتها الغربية من أجل استضافة قاعدة روسية.
أما في غرب أفريقيا، فقد تُقدِّم البلدان الواقعة على طول خليج غينيا أيضا لموسكو قاعدة لعملياتها في منطقة الساحل، لكن أي مرافق قد تتمكن موسكو من إنشائها هناك من غير المرجح أن تكون قادرة على العمل بوصفها مراكز لوجيستية شاملة.
والواقع أن بلدانا مثل توغو وبنين وساحل العاج وغانا، التي تقع ضمن خريطة اهتمامات الكرملين منذ سنوات، تتطلَّع إليها كذلك الولايات المتحدة باهتمام متزايد لمنع النفوذ الروسي من التمدُّد في المنطقة، وقد يعوق ذلك جهود موسكو.
في نهاية المطاف، يبدو أن السيناريو الأفضل بالنسبة لروسيا هو التشبث بمحاولة التفاهم مع الإدارة الجديدة في دمشق، رغم ضعف الثقة بين الطرفين اللذين خاضا حربا دامية لعقد ونيّف، إذ إن الخيارات الأخرى المُتاحة أمام موسكو باتت محدودة، وقد تعيدها سريعا إلى الوراء في صراعها الجيوسياسي مع القوى الغربية، وفي لحظة لا يمكنها أن تتكبَّد فيها كُلفة التراجع.
للإشتراك في قناة ( اليوم برس ) على التلغرام على الرابط
https://telegram.me/alyompress
اقرأ ايضا :
اضف تعليقك على الفيس بوك