عقدة أوكرانيا.. لماذا فشل الغرب في هزيمة روسيا حتى الآن؟

 
في الساعات الأولى من صباح الرابع والعشرين من فبراير/شباط 2022، عندما تصاعد الدخان فوق سماء كييف وعبرت الدبابات الروسية الحدود، كان واضحا منذ اللحظات الأولى أن ثمة شيئا خطيرا سوف يتأثر به العالم كله. لم تكن تلك حربًا محدودة على إقليم متنازع عليه، بل كانت في جوهرها إعادة فتح حسابات الجغرافيا السياسية العالمية من قلب أوراسيا، حيث تتقاطع دائما أطماع القوى الكبرى، وتُختبر معادلات القوة.
مثلت الحرب اختبارا حاسما للنظام الدولي الذي وُلد على أنقاض الاتحاد السوفياتي. فمن جانب روسيا؛ لم تكن الحرب إلا محاولة لتصحيح ما تعتبره انكسارًا جيوسياسيًّا أصابها منذ نهاية الحرب الباردة، بعد فقدان مجالها الحيوي في شرق أوروبا. أما أوكرانيا، فتسعى للانفكاك النهائي من جاذبية المدار الروسي، وتحقيق حلم الانتماء الكامل إلى الغرب. وفي المنتصف، تقف الولايات المتحدة وأوروبا، أمام انقسام تاريخي حول تحديد الأولويات وتعريف الضرورات الأمنية لكل منهما.
ومنذ بداية الحرب؛ راهنت العديد من العواصم الغربية على أن مزيجًا من العقوبات الاقتصادية الصارمة، والدعم العسكري السخي لأوكرانيا، إلى جانب وحدة الموقف في حلف الناتو، سيكون كفيلًا بردع موسكو ودفعها إلى التراجع، أو على الأقل استنزاف قدراتها الإستراتيجية.
لكن مجريات الحرب، وما تبعها من تحولات ميدانية وسياسية، كشفت عن محدودية هذا الرهان، وأظهرت قصور الغرب عن تحقيق انتصار حاسم. وبعد أكثر من ثلاثة أعوام، أصبح واضحًا أن أسباب هذا الإخفاق لا تقتصر على العوامل العسكرية أو الميدانية، بل تعود إلى منظومة أعمق وأكثر تعقيدًا، تشمل الأبعاد الجيوسياسية والديموغرافية والإستراتيجية.
فرغم الضغوط المتواصلة، أظهرت روسيا قدرة ملحوظة على الصمود والمرونة في التكيف مع حرب طويلة الأمد، في حين واجه الغرب فجوة بين إمكاناته الهائلة وقدرته على تحويلها إلى نتائج ملموسة على الأرض. فما العوامل التي منعت الغرب من تحقيق الانتصار السريع على موسكو؟ ولماذا تدخل الحرب عامها الرابع وسط آمال محدودة في الوصول إلى اتفاقيات جزئية دون الوصول إلى اتفاق يحسم الأسباب الجذرية لاندلاع الحرب؟
توازن قوى وتغيرات سياسية حادة
بعد أكثر من ثلاثة أعوام من المواجهة الغربية لموسكو؛ تُسيطر روسيا الآن فعليًّا على ما يقارب 20٪ من الأراضي الأوكرانية، بما يشمل شبه جزيرة القرم التي ضمّتها عام 2014، وأغلب أراضي المناطق الأربع: لوغانسك، ودونيتسك، وزاباروجيا، وخيرسون، التي أعلنت موسكو ضمها بعد بدء الغزو في 2022.
هذه المكاسب الميدانية ترافقت مع تغيّر سياسي لافت، تجسّد في مقاربة إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، التي تتبنى سياسة أكثر براغماتية وأقل حدة، وتُجري مفاوضات مباشرة مع موسكو بهدف وقف الحرب، حتى وإن تطلّب الأمر الإبقاء على المناطق التي خسرتها أوكرانيا تحت السيطرة الروسية.
في بدايتها، بدت الحرب محاولة لاجتياح سريع من جانب روسيا، لكنها ما لبثت أن تحوّلت إلى حرب استنزاف طويلة الأمد. وفي هذا النوع من الحروب، يصبح الانتصار مرهونا بعاملين رئيسيين: القدرة على القتال، وإرادة الاستمرار فيه، كما يقول المؤرخ الأميركي المتخصص في الشأن الروسي، ستيفن كوتكين.
ولا تُقاس القدرة على القتال بما تملكه الدولة من دبابات أو مقاتلات أو طائرات مسيّرة فحسب، بل بما تستطيع إنتاجه بشكل مستمر عبر مجمّعها الصناعي، وعدد خطوط إنتاجها، وعمال مصانعها، وتحالفاتها الخارجية.
وقد زادت روسيا ميزانيتها العسكرية إلى أكثر من 6٪ من ناتجها المحلي في 2024، بعد أن كانت 3.9٪، مما يُعد مؤشرًا واضحًا على نيتها مواصلة القتال. كما أمر الرئيس بوتين في سبتمبر/أيلول من العام نفسه بزيادة عدد الجيش بنحو 180 ألف جندي، ليصل إلى 1.5 مليون، وهي التوسعة الكبرى الثالثة له منذ بدء الحرب.
وعلى عكس الحالة الروسية، يعاني الجانب الأوكراني من هشاشة القدرة على القتال واستنزاف تدريجي في الإرادة القتالية، نظرًا إلى اعتماده المفرط على الإمدادات الغربية. فجُلّ العتاد العسكري الأوكراني مصدره الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وهو ما يجعل قدرة كييف على مواصلة الحرب مرتبطة بشكل مباشر بإرادة الشركاء الغربيين ومدى التزامهم.
لكن هذه الدول، رغم كثافة الإمدادات، لم تُطوّر خطوط إنتاج جديدة كافية لتعويض ما ترسله إلى أوكرانيا. وكانت المخزونات الأوروبية في الأصل محدودة، في حين لا يزال إنتاج الذخائر، وخصوصًا المدفعية منها، يسير بوتيرة أبطأ من وتيرة الاستهلاك في جبهات القتال.
وفي مؤشرات واضحة على هذا الاستنزاف، لجأت الولايات المتحدة إلى استدانة ذخائر من كوريا الجنوبية، رغم القيود الدستورية التي تمنع سول من تصدير الأسلحة إلى مناطق النزاع. كما اضطرّت واشنطن إلى تزويد أوكرانيا بذخائر عنقودية محظورة في الدول الأوروبية، وسبق أن تحفّظت الولايات المتحدة نفسها على استخدامها.
كل ذلك يعكس هشاشة البنية العسكرية الذاتية لأوكرانيا، وعجزها عن مواكبة متطلبات الحرب دون دعم خارجي مباشر. كما يُبرز محدودية الإرادة الغربية في تحويل المعركة إلى مواجهة شاملة وطويلة الأمد، في ظل تزايد الضغط السياسي الداخلي في الغرب، وشعور الناخبين بالإرهاق المالي والعسكري من حرب لا أفق لنهايتها.
الجغرافيا تقاتل مع روسيا
تُعد روسيا أكبر دولة مساحة في العالم، بامتداد جغرافي يبلغ نحو 17 مليون كيلومتر مربع، مما يمنحها قدرة استثنائية على المناورة الإستراتيجية من أوروبا الشرقية إلى سواحل المحيط الهادي. وهي تتشارك حدودًا برية أو بحرية مع 16 دولة، بعضها من الحلفاء النوويين، وأبرزهم الصين، ثاني أقوى قوة اقتصادية وعسكرية في العالم، بحدود يصل طولها إلى 4200 كيلومتر، إضافة إلى كوريا الشمالية، ثم إيران التي لا تشترك مع روسيا بحدود برية، لكنها ترتبط بها جغرافيًّا عبر بحر قزوين، وهو امتداد إستراتيجي لا يقل أهمية عن الحدود البرية من الناحية اللوجستية.
ومن ثم فلا يمكن إغفال الدور المحوري الذي أدته الجغرافيا في تعزيز قدرة روسيا على الصمود في وجه الحصار الغربي. فالدول المجاورة لها مباشرة، مثل الصين وكوريا الشمالية ومنغوليا، أو تلك التي ترتبط بها عبر حدود وسيطة، وفّرت لها دعمًا متنوعًا، سواء عبر الإمداد المباشر أو عبر توفير نقاط عبور إستراتيجية، بدوافع تتراوح بين المصالح الذاتية والعداء للغرب. هذا الامتداد الجغرافي الواسع، الذي يشمل قلب أوراسيا، يجعل من المستحيل عمليًّا فرض حصار شامل وفعّال على روسيا.
ورغم أن بعض هذه الدول ليست داعمة لروسيا بشكل كامل، فإن امتناعها عن المشاركة في العقوبات الغربية، واحتفاظها بعلاقات اقتصادية وتجارية مع موسكو، يجعلها فعليًّا "حليفة بحكم الجغرافيا"، وكان التجلي الأبرز لهذا العمق الجغرافي هو مشاركة كوريا الشمالية بأكثر من 10 آلاف مقاتل لإسناد الجيش الروسي في الدفاع عن كورسك.
الردع النووي لا يزال فعالا
منذ الأيام الأولى للحرب، خيّم شبح الخوف من التصعيد النووي على كل قرارات الغرب في معايرة الردود الممكنة على موسكو. وعلى الرغم من الإدانات والعقوبات والدعم العسكري الغربي الواسع لكييف، بقيت هناك "خطوط حمراء غير مرئية" تقيّد السلوك الغربي، لمنع وقوع الخطر النووي.
تمتلك روسيا ثاني أكبر ترسانة نووية في العالم، وأكثر من 6 آلاف رأس نووي. ومنذ بداية الحرب، لمّح الرئيس فلاديمير بوتين ومسؤولون روس إلى إمكانية استخدام السلاح النووي في حال "تهديد وجودي". هذا التهديد، وإن لم يكن صريحا، أجبر صناع القرار في واشنطن وبروكسل على التعامل مع موسكو بوصفها قوة ذات "حواجز خطيرة".
وكانت النتيجة: لم تُستهدف المصانع، ولا المنشآت العسكرية العميقة، ولا البنية التحتية داخل روسيا، رغم أنها تمدّ على جبهات القتال. لم تواجه روسيا أي قصف عميق داخل أراضيها كما حصل مع ألمانيا النازية أو صربيا في الحروب السابقة، مما منحها حرية نقل السلاح والجنود بأمان داخل أراضيها، والإنتاج العسكري المستمر في مصانع بعيدة عن الجبهات.
في المقابل، لم تتمتع أوكرانيا بهذا العمق الإستراتيجي، حيث كانت بنيتها التحتية هدفا مستمرا للقصف الروسي، مما وضعها في موقع دفاعي دائم.
وإجمالا يمكن القول بأن الخوف من الانزلاق إلى مواجهة مباشرة مع قوة نووية، قيّد خيارات الدول الغربية. فالولايات المتحدة والناتو كلاهما رفضا إقامة منطقة حظر جوي، أو إرسال قوات برية، أو تسليم أوكرانيا صواريخ بعيدة المدى (في بداية الحرب) لضرب العمق الروسي. وحتى حين قدّمت واشنطن لكييف صواريخ طويلة المدى (ATACMS)، فرضت شروطا صارمة بأن لا تُستخدم داخل الأراضي الروسية.

ربما كان توقع التهديد النووي مبالغا فيه، لكن احتمال استخدامه ليس صفرا، ويبدو أن بوتين راهن على أن مجرد التهديد بالغموض النووي كاف لشل إرادة الغرب في بعض الاتجاهات، وقد نجح.
اقتصاد الحرب في روسيا والالتفاف على العقوبات
راهنت أوروبا والولايات المتحدة على "سلاح العقوبات" ليكون أداة فعالة تؤدي إلى تدمير الاقتصاد الروسي وإلحاق الهزيمة بموسكو، غير أن الواقع وأرقام الاقتصاد الروسي يرويان حكاية مختلفة تثبت فشلا واسعا لرهانات الغرب، وتكشف الكثير من مواطن الخلل في توظيف ذلك السلاح.
مع دخول الحرب الروسية الأوكرانية عامها الرابع، ورغم 16 حزمة من العقوبات الغربية، نما الناتج المحلي الإجمالي لروسيا بنسبة 4.1 بالمئة في عام 2024، مقارنة بـ 3.6 في المئة في العام السابق له، بعد أن وصل إلى حدود -1.3 في المئة عند بداية الحرب.
ورغم العقوبات الواسعة، نجحت روسيا في التحايل على القيود التجارية عبر بيع النفط بطرق غير رسمية، إلى جانب تصدير النيكل والبلاتين والغاز الطبيعي إلى دول مثل الصين والهند.
وسمحت هذه الإيرادات بتمويل المجهود الحربي وتعزيز الإنفاق الحكومي، رغم ارتفاع التضخم إلى 9.5 في المئة وفوائد الإقراض إلى 21 في المئة لكبح التضخم، كما ذكر تقرير لشبكة "سي إن إن" الأميركية في فبراير/شباط 2025.
كما استمرت المصانع الروسية في الحصول على المواد الخام والتكنولوجيا اللازمة للإنتاج العسكري، مما مكّن الدولة من مواصلة الحرب دون أزمات مالية كبيرة، بحسب صحيفة الغارديان البريطانية.
في محاولة للحد من الأرباح الروسية من النفط، أعلنت مجموعة السبع أن شركات التأمين والسفن الغربية يمكن استخدامها فقط عند شحن النفط بسعر 60 دولارًا أو أقل. لذلك طورت روسيا شبكة جديدة من السفن من أجل الالتفاف حول القيود ومواصلة الشحن إلى الصين والهند، وفق شبكة "سي إن بي سي" الأميركية.
وبحسب المجلس الأطلسي الذي يتتبع تأثير العقوبات، تنقل روسيا 71 بالمئة من صادراتها من النفط عبر "أسطول شبحي" يجري إخفاء أصول ملكيته. كما أظهرت بيانات "Windward" في سبتمبر/أيلول 2023 أن هناك 1400 سفينة اسُتخدمت لنقل النفط الروسي في تحدٍّ للعقوبات الغربية، والعديد منها يبحر دون تأمين.
وأشار المجلس الأطلسي أيضا إلى أن معظم البنوك الروسية مستمرة في الوصول إلى نظام سويفت (خدمة مراسلة تربط المؤسسات المالية حول العالم) بما يمكنها من إجراء المعاملات الدولية وتسوية المدفوعات العابرة للحدود.
التوجه الأميركي نحو الصين وأولويات أوروبية أخرى
خلال العقد الماضي على الأقل؛ اعتُبر احتواء صعود الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادي، والصراع المحتمل حول تايوان، أولويات قصوى للولايات المتحدة. ورغم أن واشنطن دعمت أوكرانيا بشكل واسع عسكريا واقتصاديا، فإن الصراع مع روسيا لم يكن أولوية إستراتيجية أميركية عليا، مقارنة بالملف الصيني، حيث تبرز الصين بمنزلة قوة التحدي الأولى للنظام الدولي بقيادة واشنطن.
وبخلاف كوريا الجنوبية، واليابان، وتايوان (ضمنيا)، ودول الناتو، فإن أوكرانيا لا ترتبط باتفاق دفاعي ملزم مع الولايات المتحدة. لذا فإن الدعم الأميركي لها، رغم أهميته، يظل محدودا بطبيعة المصالح الإستراتيجية الأميركية الأشمل، مما جعله أقرب إلى التضامن السياسي والمساعدات العسكرية المشروطة، وليس التزاما وجوديا.
وبصرف النظر عن القدرة الاقتصادية والعسكرية الأميركية الهائلة، فإن القيادة السياسية لا يمكنها خوض صراعات كبرى متعددة أو تمويلها في وقت واحد. التصعيد في تايوان، أو مواجهة مباشرة مع الصين، سيكون كل منهما أكثر تعقيدا وأهمية جيوسياسية من الحرب في أوكرانيا، أيا كانت نتائجها. وهذا ما يجعل صنّاع القرار الأميركيين يوازنون بين دعم أوكرانيا، وحشد الإمكانات لكبح نفوذ الصين.
ويبدو أن واشنطن أدركت مؤخرا أن استمرار الحرب الأوكرانية سيكون صراعا مفتوحا يستنزف طاقات الولايات المتحدة ويضعف قدرتها على التركيز على أولوياتها البعيدة المدى، ويُهدد بإيجاد حالة "إرهاق إستراتيجي" داخلي، سياسي وشعبي، قد تؤثر في التزامات واشنطن اتجاه تايوان أو تحالفاتها في آسيا.
وفضلا عن واشنطن؛ ظهرت في بعض الدول مثل ألمانيا، وفرنسا، وهنغاريا، وسلوفاكيا، قوى سياسية تشكك في جدوى استمرار دعم أوكرانيا، كما تصاعدت أصوات من تيارات يمينية وشعبوية تقول: "هذه ليست حربنا"، أو "لماذا نمنح أوكرانيا مليارات الدولارات بينما نعاني داخليًّا؟". وفي المقابل، تدعو دول أخرى، مثل دول البلطيق وبولندا، إلى هزيمة عسكرية واضحة لروسيا، معتبرة أن أية تسوية ستعطي روسيا فرصة لاستعادة نفوذها الإقليمي.
هذا التردد الإستراتيجي والانقسام حول تفسير الحرب وحدود الموقف المفترض، أظهر المعسكر الغربي مؤخرا بصورة المنشق الباحث عن مخرج، وهي صورة بكل الأحوال تغري بوتين في استمرار ممارسة الضغوط العسكرية، واستمرار الضغط على نقطة ضعف ترامب التي يدركها جيدا وهي أنه لا يريد هذه الحرب.
موسكو مستعدة لدفع الأثمان
بحسب بريجنسكي ومنظرين آخرين؛ كان استقلال أوكرانيا ضربة قاسية وجهت إلى صميم مكانة موسكو الإمبراطورية، ولا تزال النخبة الأمنية في موسكو منذ ذلك الحين تعتبر استقلال أوكرانيا وضعية شاذة تاريخيا وخطرا يهدد مكانة روسيا بوصفها قوة عظمى.
ومن ثم؛ حين أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا بعد سنوات من بدء زحف الناتو شرقا منذ قمة بوخارست عام 2008 التي فتحت الباب لمناقشة انضمام جورجيا وأوكرانيا للحلف، كان بوتين يدرك أنه يقوم بإعادة تصحيح التاريخ وإيقاف تدهور مكانة الأمة الروسية، ويعني هذا أن سقفا عاليا من الخسائر يمكن تحمله في سبيل هذه المغامرة التاريخية.
على الصعيد الجيوستراتيجي، يرى الإستراتيجيون الروس أوكرانيا منطقة عازلة ضرورية لحماية العمق الروسي من أي اعتداء غربي محتمل. لقد عانت روسيا تاريخيًّا غزوات مدمرة جاءت عبر السهل الأوكراني -من حملة نابليون في القرن التاسع عشر إلى اجتياح هتلر في الحرب العالمية الثانية- ولذلك ترسَّخ في الوعي الإستراتيجي الروسي أن غياب السيطرة أو النفوذ في أوكرانيا يفتح الباب أمام تهديد وجودي لا يمكن تحمله أو التعايش معه.
ورغم أن حلف الناتو لم يكن يخطط فعليًّا لشن حرب على روسيا، فإن منطق الجغرافيا السياسية يفترض دائما التحسب للسيناريو الأسوأ. فبدون أوكرانيا في فلكها، تفقد روسيا عمقها الإستراتيجي، وتتراجع خطوط دفاعها إلى حدودها المباشرة بشكل خطير. في حال التحقت أوكرانيا بحلف الناتو، يمكن لصواريخ الحلف أن تُنْصَب على مسافة لا تزيد على 200 كيلومتر من سان بطرسبرغ.
وإلى جانب الهاجس الأمني، ثمة بُعد تاريخي وهوياتي يحكم نظرة موسكو لأوكرانيا. كثيرًا ما عبّر بوتين وغيره من كبار المسؤولين الروس عن اقتناع مفاده أن الروس والأوكرانيين "شعب واحد" تربطه جذور تاريخية ودينية عميقة، هذه الرؤية لا تعتبر أوكرانيا مجرد دولة جارة، بل تراها مكوّنًا جوهريًّا من "العالم الروسي"، وهي رؤية ثقافية وحضارية ترتكز على ثلاثة أعمدة: روسيا، وروسيا البيضاء، وأوكرانيا. وفق هذا المنظور، تُعتبر كييف مهد الحضارة السلافية الشرقية، حيث وُلدت "كييف روس" في القرن التاسع الميلادي، ويرى القوميون الروس أنها الجذر التاريخي للدولة الروسية الحديثة.
هذه الاعتبارات هي التي دفعت بريجنسكي وآخرين منذ سقوط الاتحاد السوفياتي وتفكك أوروبا الشرقية إلى القول بأن بقاء أوكرانيا على الحياد ضرورة لمنع استفزاز روسيا، وأن أي محاولة لضم أوكرانيا للناتو ستمثل ضغوطا هائلة على الوعي القومي والإستراتيجي الروسي لن يمكنه تحملها. لكن لسبب غير مفهوم بدقة؛ وبعد سنوات طويلة من عقلنة محاولات تحجيم موسكو، غامرت الولايات المتحدة والناتو بتجاوز الخطوط الحمراء المستقرة في نظام ما بعد الحرب الباردة، وهي المغامرة التي لم تخرج منها بعد.
 
للإشتراك في قناة ( اليوم برس ) على التلغرام على الرابط https://telegram.me/alyompress


كلمات مفتاحية:


اقرأ ايضا :
< لأول مرة .. الحوثيون يعلنون بشكل مُسبق إستهداف مواقع في إسرائيل
< الطيران السعودي يستأنف رحلات نقل الحجاج الإيرانيين للمرة الأولى منذ 2015
< وكيل قطاع الحج والعمرة يطلع على مخيمات الايواء في منى وعرفة
< تحديث : أسعار صرف الريال اليمني مقابل الدولار والسعودي في صنعاء وعدن لليوم الأحد
< وزير الدفاع السوري يمهل الفصائل المسلحة 10 أيام للاندماج بالجيش
< ماذا حدث لطائرة " اليمنية " أثناء هبوطها اليوم في مطار صنعاء ( صوره)
< باريس تلغي إعفاء الجزائريين حاملي جوازات السفر الدبلوماسية من التأشيرة

اضف تعليقك على الفيس بوك
تعليقك على الخبر

ننبه الى ان التعليقات هنا تعبر عن كاتبها فقط ولا يتبناها الموقع، كما ننبه الى ان التعليقات الجارحة او المسيئة سيتم حذفها من الموقع
اسمك :
ايميلك :
الحد المسموح به للتعليق من الحروف هو 500 حرف    حرف متبقى
التعليق :
كود التحقق ادخل الحروف التي في الصورة ما تراها في الصورة: