يبدو أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وعلى قاعدة "الغاية تبرر الوسيلة"، لا يأبه لسقوط عدد كبير من المدنيين في الحرب على تنظيمي "الدولة الإسلامية" (داعش) و"القاعدة". وأثار تحول سقوط المدنيين بالقصف الأميركي في العراق وسورية، على ما يبدو من "خطأ" يحصل في الحروب، إلى نمط في المواجهة مع "داعش"، ضجة واعتراضات واسعة في أميركا، خصوصاً في وسائل الإعلام. لكن إدارة ترامب ليست معنية سوى بشيء واحد، رفع وتيرة العمليات العسكرية وتعنيفها ضد التنظيم وترك القرار بشأنها للقيادة الميدانية، بقطع النظر عن الكلفة المترتبة عن ذلك في صفوف المدنيين. ولم يتوقف البيت الأبيض كثيراً عند الحوادث الأخيرة، برغم حجم ضحاياها، فيما أحالتها وزارة الدفاع الأميركية إلى "التحقيق"، من غير أن تصل التحقيقات إلى شيء حتى الآن، ومن دون تقديم ضمانات بمنع تكرارها.
وبدأت ترجمة هذا التوجه في اليمن، عبر غارة، وافق عليها ترامب، على موقع لتنظيم "القاعدة" في 29 يناير/كانون الثاني الماضي. وأدى مقتل عدد من المدنيين وجندي أميركي، إلى طرح تساؤلات كثيرة حول القصور في التخطيط، والإسراع في التنفيذ. البيت الأبيض رمى بالمسؤولية على الجانب العسكري، مع أن الرئيس هو القائد العام للقوات المسلحة، فيما اكتفى البنتاغون بالقول إن العملية "استهدفت تجمعاً للقاعدة". وبعد نحو أسبوعين قصف الطيران، بحجة مهاجمة مجموعة تابعة إلى "القاعدة"، مجمعاً تابعاً إلى مسجد عمر بن الخطاب في ريف حلب الغربي، ما تسبب بمقتل 49 مدنياً. وأجرت قيادة المنطقة الوسطى تحقيقاً "للتأكد" من مقتل المدنيين، والتثبت بأن المجمّع تابع إلى المسجد. اعترفت القيادة بصحة الشق الثاني، لكن مع التعليل بأن المجموعة كانت تستخدم المبنى لعقد اجتماعاتها فيه. ووعدت بمراجعة المعلومات الاستخباراتية التي جرى اعتمادها لشن الغارة، مع التشديد على الالتزام بأقصى درجات الحذر لتخفيف الخسائر المدنية.
وبعد نحو شهر، تكرر السيناريو، لكن على نطاق أوسع، في الموصل. اعترفوا بسقوط أكثر من 200 قتيل في المجزرة التي أربكت واشنطن، فيما سارع البنتاغون إلى وضع الضربة في إطار يخفف من وقعها المحرج. قال إنها جاءت تحت ضغط "تسريع معركة الموصل"، بعد أن أطلق ترامب يد القيادة الميدانية لتقوم بما تراه مناسباً في هذا الإطار. حاولوا وضع العملية في إطار الصدفة والخطأ، لكن الضربة استهدفت حياً سكنياً، حسب المعلومات التي تناقلتها التقارير الأميركية. بل أكثر من ذلك، إذ إن السلطات العسكرية، العراقية والأميركية، سبق "ورمت بمناشير من الجو تدعو السكان للبقاء في منازلهم وعدم تعريض أنفسهم للخطر خارجها". وبذلك لا يستقيم ادعاء المصادر العسكرية بأن ما حصل لم يكن نتيجة تغيير في قواعد المواجهة.
وتكشف هذه المجزرة، وما سبقها من ضربات، أن ما جرى في الموصل لم يكن صدفة، بقدر ما هو تعبير عن سياسة مفادها أن هناك ثمنا مدنيا غير مقصود، لا بد من القبول به في سياق الحرب المحتدمة على "داعش". وهذا الثمن مرشح للتكرار خلال ما تبقى من هذه المعركة، كما في المعركة المقبلة في الرقة. إن استباحة استهداف المدنيين في ريف حلب الغربي التي مرّت من غير مساءلة ولا محاسبة، تمددت عدواها. وهي متناسلة عن استباحة البلدين، العراق وسورية، بعد تحولهما إلى ملعب وساحة تجارب وصراعات على الحصص والنفوذ، بين القوى الدولية والإقليمية، وبما ينطبق عليه قول المثل الشائع "الرزق السائب يعلم الناس الحرام".
*العربي الجديد
للإشتراك في قناة ( اليوم برس ) على التلغرام على الرابط
https://telegram.me/alyompress
اقرأ ايضا :
اضف تعليقك على الفيس بوك