تعود جبهة حلب إلى الاشتعال إثر هجوم سريع ومفاجئ شنته فصائل المعارضة السورية المسلحة بقيادة "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقا) في محافظتي حلب وإدلب، أدى إلى الاستيلاء على مدينة حلب واندفاع سريع في اتجاه حماة وسط انسحابات من جيش النظام، في تحرك لا يمكن فصله عن التداعيات العسكرية والسياسية بالمنطقة عموما، ويرسم سيناريوهات قد تكون مختلفة.
يشير محللون إلى أن هجوم فصائل المعارضة المسلحة تحت "إدارة العمليات العسكرية" التي شكّلتها "غرفة عمليات الفتح المبين" (تأسست عام 2019) يستثمر في متغيرات بالإقليم ناجمة عن مفاعيل الحرب على غزة ولبنان، وبعد استشعار تحولات قادمة تم استباقها لفرض حقائق جديدة على الأرض.
ودارت المعارك بشكل عام ضمن منطقة خفض التصعيد في إدلب وحلب، والتي نشأت بفعل مسار أستانا عندما أطلقت موسكو مع "الدول الضامنة" (تركيا وإيران) في 4 مايو/أيار2017، اتفاقا لإنشاء 4 مناطق لخفض التصعيد، شملت أيضا ريف حمص الشمالي، والغوطة الشرقية والمنطقة الجنوبية، لكن الاتفاق شهد خروقات عدة وتعثرا في تطبيقه وخلافات بين الراعيين الرئيسين موسكو وأنقرة.
وتشمل الفصائل التي أطلقت عملية "ردع العدوان" يوم 27 نوفمبر/تشرين الثاني، إضافة إلى "هيئة تحرير الشام"، "الجبهة الوطنية للتحرير"، التي تضم فصائل من الجيش السوري الحر في الشمال السوري، وكذلك "جبهة تحرير سوريا" التي تضم "جيش الأحرار" و"ألوية صقور الشام" و"تجمع دمشق"، وفصائل "الجيش الوطني السوري" و"حركة أحرار الشام"، وفصائل أخرى.
وفق المؤشرات الأولية، يشكل الهجوم الذي سيطرت فيه فصائل المعارضة السورية المسلحة على كامل محافظة إدلب ومدينة حلب وجزءا كبيرا من محافظتها ومناطق في محافظة حماة في ظرف 4 أيام ضربة موجعة لدمشق من شأنها أن ترسم خريطة جديدة للنفوذ، لكن ذلك يبقى مرتبطا بمدى استمرار اندفاعة قوات المعارضة المسلحة، وامتصاص النظام للصدمة وتطوير هجوم مضاد.
التوقيت والعوامل والأسباب
كان التوقيت الدقيق للهجوم وقوته مفاجئا نسبيا، لكن الاستعدادات له كانت ملحوظة على الأرض منذ أشهر -وفق تقارير عديدة- أشارت إلى تمركز قوات "هيئة تحرير الشام" على حدود محافظة إدلب، وخوضها تدريبات عالية المستوى، وإنشائها وحدة جديدة للطائرات دون طيار، وتطوير قدرتها على إنتاج الذخيرة والعتاد.
كما أشارت التقارير إلى إعادة تنظيم عسكري للقوات وإحداث تغييرات بنيوية في هيكل قيادة الوحدات القتالية، بما فيها وحدات النخبة، والتدرب على أسلحة حديثة وطائرات مسيّرة متطورة.
ويرى محللون أن التطورات الإقليمية والدولية أعطت زخما قويا لتوقيت الهجوم، وكان من الواضح أن "هيئة تحرير الشام" بالدرجة الأولى وفصائل المعارضة الأخرى قد قرأت مشهد التحولات -خلال عام من الحرب الإسرائيلية على حزب الله وضعف النظام- بما يفيد أن خطوط الدفاع حول المناطق التي يسيطر عليها الجيش السوري باتت تدريجيا أكثر هشاشة، وهو ما يمنحها فرصة سانحة للقيام بعمل عسكري واسع النطاق. كما توفرت عوامل أخرى للعمل العسكري من بينها:
• بات حزب الله مشغولا بالحرب مع إسرائيل، كما سحب كل قوات النخبة تقريبا من خطوط الدفاع على تخوم إدلب وحلب. وحتى بعد اتفاق وقف النار وفق القرار 1701 تقلصت أو انعدمت قدرة الحزب على التحرك بحرية بين لبنان وسوريا مع الضربات الإسرائيلية المتتالية للحدود.
• تعرضت إيران لضربات إسرائيلية متتالية في سوريا (شملت إدلب وحلب) وتقلصت أعداد المقاتلين من الفصائل التابعة لها وكذلك قواعدها، خصوصا في غرب سوريا.
• وجهت روسيا جهدها الرئيسي للحرب في أوكرانيا وتراجع نشاطها الجوي والاستخباراتي في منطقة خفض التصعيد وفي عموم سوريا.
• الخطوط الدفاعية السورية كانت ضعيفة في المحاور الرئيسية وغير قادرة على احتواء هجوم مباغت وقوي، ومع وجود تراخ وضعف في بنية المؤسسة الأمنية والعسكرية، ومحاولة إعادة تشكيلها المتعثرة في الأشهر الأخيرة.
• امتلاك "هيئة تحرير الشام" قوة نيران أفضل وأسلحة الجديدة، خصوصا المسيّرات والمقاتلين المدربين بشكل جيد، بما جعلها قادرة على شن هجوم ناجح وفعّال، كما تطورت القدرات القتالية وجهوزية الفصائل الأخرى للمعارضة.
• كان هناك قلق متزايد لدى "هيئة تحرير الشام" من إمكانية تقارب أو تطبيع للعلاقات بين تركيا وسوريا، تكون أول من يدفع ثمنه، وهو ما عجّل بتحركها العسكري الاستباقي.
• حسمت "هيئة تحرير الشام" صراعها مع بعض التنظيمات المسلحة الأخرى المناوئة بالسلاح أو التفاهمات، وأصبحت عمليا القوة الكبرى في إدلب، كما صمدت ضد مظاهرات وتحركات احتجاجية متواترة في إدلب، مما أعطاها زخما لتثبيت حضورها والمضي لتحقيق مكاسب ميدانية أخرى.
• اتفاق أطراف المعارضة المسلحة على ضرورة وضع حد لانتهاكات جيش النظام لمنطقة خفض التصعيد، وتوفر الظروف الموضوعية لتحركها.
استثمار التحولات واستباق المتغيرات
تشير صحيفة نيويورك تايمز الأميركية (عدد1 ديسمبر/كانون الأول) إلى أن "التصعيد الجديد يعد انعكاسا واضحا لما يحصل في المنطقة وللصراعات بالوكالة في سوريا وتأثير القوى الإقليمية والدولية في النزاع"، وهو امتداد لأزمة خمدت نسبيا، لكنها تحمل دائما عوامل التفجير، في غياب حل شامل.
وفيما اعتبرت إيران على لسان قادتها، وبينهم الرئيس مسعود بزشكيان أن "أحداث سوريا جزء من مؤامرات الكيان الصهيوني"، وتعهدت بتقديم شتى أنواع المساعدات لدمشق، نددت روسيا من جهتها بالهجوم الذي شنته فصائل المعارضة السورية، وتعهدت بمواصلة تقديم المساعدة لدمشق.
من جانبها، عبّرت تركيا عن قلقها من التصعيد داعية إلى التهدئة، وتشير تحليلات إلى أن جميع الأطراف الفاعلة بما فيها تركيا والمعارضة السورية المسلحة حاولت استثمار الفترة الرمادية بالولايات المتحدة وقبل تولي الرئيس دونالد ترامب رسميا في يناير/كانون الثاني المقبل بفرض خارطة سيطرة جديدة.
ورغم أن تركيا لم تؤيد العملية رسميا، يرى محللون أن تركيا غضت الطرف عن اندفاع المعارضة المسلحة بعد فشل محاولات بذلتها روسيا على مدى العام الماضي لعقد قمة بين الرئيسين السوري بشار الأسد والتركي رجب طيب أردوغان، واعتبر ذلك تعنتا من الرئيس السوري، الذي اشترط انسحاب القوات التركية، وهي بالتالي محاولة من أنقرة لكسب أوراق جديدة، وفق المحللين.
وتبقى المسألة الكردية الهاجس التركي الأكبر في سوريا، حيث تتمركز قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في مدينتي منبج بريف حلب الشرقي وتل رفعت بريف حلب الشمالي قرب الشريط الحدود مع تركيا.
وبالتوازي مع عملية "ردع العدوان" أطلقت المعارضة السورية المسلحة أيضا عملية "فجر الحرية" التي تستهدف المناطق الخاضعة لنفوذ "قوات سوريا الديمقراطية" في ريف حلب الشمالي والشرقي، وسيطرت على مدينة تل رفعت وأريافها، كما ينتظر أن تنسحب قوات "قسد" من حيي الشيخ مقصود والأشرفية في حلب بعد محاصرتهما من قوات المعارضة المسلحة، بناء على اتفاق بين الطرفين.
وتشير المعطيات الميدانية إلى أن هجمات المعارضة المسلحة -التي تكتسب زخما متواصلا مع غياب أي وجود لقوات الجيش السوري (كانت تتمركز في أجزاء من تل رفعت ومنبج) قد تستهدف أيضا السيطرة على منبج وعين العرب (كوباني).
وأعلنت الولايات المتحدة وتركيا في 4 يونيو/حزيران 2018 الاتفاق على خطة لسحب وحدات حماية الشعب الكردية (الجناح العسكري لقوات سوريا الديمقراطية) من مدينة منبج الواقعة في شمال سوريا، لكن مجلس منبج العسكري الذي يدير، خضع لسيطرة قيادة (قسد)، وتتهم تركيا المجلس باستمرار بانتهاك الاتفاق.
وفي تعقيبه على عملية "ردع العدوان"، قال الناطق باسم الخارجية التركية أونجو كيتشيلي إن بلاده "تتابع عن كثب التطوّرات التي تدفع إلى توتّرات، يمكن أن يستفيد منها الإرهابيون (في إشارة إلى الأكراد) الموجودون في منطقتَي منبج وتل رفعت"، مؤكدا أن اتفاقات أستانا "تنصّ على تنظيف المنطقة من الإرهابيين، وهو ما لم تطبّقه الجهات الراعية لأستانا، الأمر الذي يضاعف قلقنا".
من جهته، قال الكاتب في صحيفة "حرييت" التركية عبد القادر سيلفي إن "الهجمات على إدلب تواصلت، فاضطرت هيئة تحرير الشام إلى الرد، كما أن حزب العمال الكردستاني لم ينسحب من شرقي الفرات لمسافة 32 كيلومترا، والولايات المتحدة لم تنفّذ تعهداتها، مؤكدا أن "أولوية تركيا هي محاربة الإرهاب. ولن تسمح للمجموعات الإرهابية في منبج وتل رفعت بالاستفادة من عدم الاستقرار".
ويرى مراقبون أن المعارضة المسلحة تعمل مع تقدمها السريع والمفاجئ للسيطرة على مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية بما يخدم في النهاية مصالح أنقرة لاستكمال "الحزام الآمن" في الشريط الحدودي الشمالي أثناء الفترة الانتقالية الراهنة بين إدارتي الرئيسين جو بايدن ودونالد ترامب، وانشغال موسكو ودمشق بصدّ الهجوم المباغت على حلب ثم حماة.
وحسب تقديرات المحللين، لن تكون إدارة الرئيس ترامب مهتمة كثيرا بالوضع في سوريا وقد تفكر في سحب القوات والقواعد الأميركية- التي كانت تنسق مع الأكراد في الحسكة ودير الزور والقامشلي بالشمال الشرقي للبلاد- وهو ما يتيح حرية العمل لتركيا في المناطق الحدودية وفرض حقائق ميدانية جديدة.
الوقائع والاحتمالات
ترتبط نتائج التحرك الواسع للمعارضة المسلحة أساسا بما إذا كانت روسيا بالدرجة الأولى ثم إيران ستعززان قواتهما في سوريا من أجل مساعدة النظام وشن الهجوم المضاد لاستعادة المناطق التي خسرتها، ودفع فصائل المعارضة المسلحة إلى الوراء، كما ترتبط كذلك بالموقف التركي، وبمواقف دولية يمكن أن تستثمر في المعطى الجديد لإحداث تغيير داخل سوريا.
وحسب المراقبين والمحللين، من السابق لأوانه الحكم ما إذا كانت الضربة التي وجهتها "هيئة تحرير الشام" والمعارضة المسلحة للجيش السوري ستؤدي إلى تغييرات عسكرية واسعة النطاق تؤول بالمحصلة إلى زعزعة النظام أو إسقاطه.
وبالمقارنة مع المعارك السابقة استغرق الجيش السوري نحو 4 سنوات لاستعادة السيطرة على المناطق التي فقدها من مدينة حلب عام 2016 وأجزاء من المحافظة ومناطق من محافظتي إدلب وحماة، في وقت كان يتمتع بإسناد كبير من روسيا وحضور فاعل وقوي لحزب الله (قوة الرضوان) والفصائل الموالية لإيران، بينما يبدو هذا الإسناد ضعيفا في الوقت الراهن، وهو ما يؤشر إلى إمكانية استمرار المعارك لفترة طويلة وصعوبة الحسم واسترجاع ما تم فقدانه.
ويركز النظام حاليا على تأمين مدينة حماة نظرا لأهميتها الإستراتيجية، على اعتبار أن سيطرة فصائل المعارضة المسلحة عليها، ثم الانتقال إلى محافظة حمص سيخلق واقعا ميدانيا مواتيا لمزيد الاختراق، ويؤزم الموقف العسكري ثم السياسي لدمشق.
وفيما تتكثف الجهود الدبلوماسية خصوصا مع زيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى أنقرة والاجتماع المرتقب لمجلس الأمن الدولي، تبدو السيناريوهات المتوقعة رهينة أكثر بالواقع الميداني الجديد وتفاعلاته، ومدى التصعيد الذي قد يحصل، وتذهب السيناريوهات عموما في اتجاه 5 احتمالات:
• هجوم مضاد قوي تشارك فيه روسيا وإيران بفعالية بما يغير خريطة السيطرة على الأرض مجددا لمصلحة النظام، وهو احتمال صعب ويتطلب الكثير من الوقت والجهد العسكري الذي قد لا يكون متاحا.
• تواصل المعارك وتوسعها، وفتح جبهات أخرى من قبل المعارضة المسلحة حتى سقوط دمشق ثم النظام، وهو أيضا احتمال مستبعد لعدم توفر شروطه العسكرية والسياسية وصعوبة قبول روسيا بمثل هذا السيناريو، وهي التي تحتفظ بمصالح عسكرية وسياسية (بقاعدتي حميميم وطرطوس)، وكذلك إيران التي ستفقد بذلك مجالا رئيسا وحيويا لها ضمن "محور المقاومة".
• العودة إلى الأوضاع التي أعقبت الثورة عام 2011، وتفجر الاحتجاجات والمواجهات في أكثر من منطقة ضمن مناطق سيطرة النظام، ولا يبدو أن المؤشرات الأولية تذهب أيضا إلى هذا السيناريو.
• تسوية سياسية كبرى تنطلق من الوضع العسكري والميداني القائم حاليا وبرعاية تركية وروسية وإيرانية عبر العودة إلى الترتيبات السابقة لمسار أستانا مع تعديلات تراعي المتغيرات الميدانية وقد تأخذ فيها مدينة حلب وضعا خاصا.
وكان وزير الخارجية التركي هاكان فيدان قد أعلن -خلال لقائه نظيره العراقي عباس عراقجي- استعداد بلاده للمساهمة في أي حوار بين المعارضة ودمشق إذا تطلب الأمر، كما شدد على حساسية بلاده تجاه "الجماعات الإرهابية"، في إشارة إلى قوات سوريا الديمقراطية، وجناحها المسلح وحدات حماية الشعب، الذي تعتبره امتدادا لحزب العمال الكردستاني، فيما تصنف دمشق وإيران وروسيا، وكذلك الولايات المتحدة "هيئة تحرير الشام" جماعة إرهابية.
• العودة إلى مسار جنيف، وإطلاق مفاوضات مباشرة بين النظام وقوى المعارضة والضغط باتجاه تنفيذ القرار 2254 الصادر في ديسمبر/كانون الأول عام 2015.
ويرى محللون أن الاستمرار في المعارك سيكون السائد حاليا، في انتظار نضوج حل سياسي ما زال معظمه بيد تركيا وروسيا وإيران، "الثلاثي الضامن" لمسار أستانا، يراعي بدوره المتغيرات الميدانية والإقليمية، في غياب اهتمام كبير من الولايات المتحدة وأوروبا، لكن المفاجآت تبقى واردة.
للإشتراك في قناة ( اليوم برس ) على التلغرام على الرابط
https://telegram.me/alyompress
اقرأ ايضا :
اضف تعليقك على الفيس بوك