أصدرت جماعة الحوثي في اليمن الفترة الماضية ما أطلقت عليه «مدونة السلوك الوظيفي» التي تلزم كل من يشغل وظيفة عامة بعدد من الالتزامات، منها: «الإيمان بالولاية «التي تعني في تطبيقها العملي اليوم الإيمان بولاية عبد الملك الحوثي، على اعتبار أن «الله أمر بتوليه»، وقد نالت هذه المدونة قدراً كبيراً من السخرية والانتقادات، الأمر الذي جعل وزير إعلام الجماعة يخاطب المنتقدين بقوله: «مشكلتكم مع الله وتوجيهاته وليست مع أنصار الله».
هذا النمط من التفكير لا يخص الحوثيين وحدهم، بل إن الكثير من التنظيمات السياسية الدينية ترى أن معارضتها هي معارضة لله وشرعه.
لا زلت أتذكر قبل أكثر من عشرين عاماً ونحن طلبة في جامعة صنعاء ذلك اليوم الذي احتدَّ فيه النقاش مع زميل دراسة كان يرى أن الغناء محرم، وكان يأخذ على «سماع الأغاني»، وكنت أقول له «أنت تراها حراماً فلا تستمع إليها وأنا لا أراها كذلك فدعني وما أرى»، غير أنه كان يستشيط غضباً، ويقول: هذا ليس رأيي، هذا «حكم الله»، ثم يستدل بنصوص مجملة الدلالة، لا يرد فيها ذكر الغناء بأي لفظ من الألفاظ المعروفة.
كنت عندما يصل النقاش إلى هذا الحد أتوقف عن الجدل، لأن الزميل العزيز يكون قد رفع رأيه أو فتواه إلى مستوى «حكم الله»، حيث تنعدم جدوى النقاش، علاوة على أنه كان يتهمني بالكبر وحب الجدل وعدم الانصياع لحكم الله، ويستدل بقوله تعالى: «إن الذين يجادلون في آيات الله إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه…»، وغيرها من نصوص ترد في غير موضع الاستشهاد.
أما أنا فكنت ولا أزال أتأمل بدهشة حديثاً شريفاً يسقط دعاوى أولئك «الحاكمين بأمر الله»، وهو حديث بالغ الدلالة، جاء فيه أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه بأن «إذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا (تنقضوا) ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا»، وهذا حديث بالغ الدلالة على التفريق بين «حكم الله» و«حكم الإنسان»، وفيه إشارة إلى الآثار السلبية الناتجة عن الخلط بين «ذمة الله» و«ذمة الإنسان»، حيث يترتب على الخطأ في «حكم الإنسان» التشكيك في صوابية «حكم الله» أو موثوقية «ذمة الله»، وهنا تمييز واضح بين «حكم الإنسان» الذي هو اجتهاد بشري، يصيب ويخطئ وبين «حكم الله» الذي لا يجوز عليه الخطأ في التصور العقدي الإسلامي.
هذا الخلط بين الحُكمين يجعل المطلق في درجة المقيد والإلهي في مستوى البشري، وإذا قُدِّم حكم الإنسان للناس على أساس أنه حكم الله فإن اختلال هذا الحكم يؤدي إلى اهتزاز ثقة الناس بالمطلقات والمقدسات الدينية برمتها، وذلك بسبب إسقاط السلطة الحاكمة الحواجز بين سياساتها البشرية المقيدة والأحكام الإلهية المطلقة، إلى درجة أن تصبح معارضة تلك السياسات البشرية هي معارضة للأحكام الإلهية.
وقد تجلت ردات الفعل من هذا النوع بعد تحطم أحلام «الربيع العربي»، إذ تزايدت أعداد الناقمين على الطروحات الإسلامية، بل وعلى الإسلام نفسه، نتيجة لتصدُّر الحركات الإسلامية لهذا الربيع، وتصديره على أساس أنه «ربيع إسلامي» سيأتي بالدولة الإسلامية المنشودة، وكان لذلك أثره السلبي على صورة الإسلام، حيث ارتبطت الكوارث التي حصلت أثناء الربيع وما بعده، ارتبطت بالإسلام لدى بعض القطاعات أو الأفراد، الأمر الذي أتاح الفرصة لهجمات واسعة ضد الإسلام، لدرجة تحول بعض عناصر الحركات الإسلامية نفسها من «معسكر الإيمان» إلى «معسكر الإلحاد»، وذلك للسبب المذكور والمتمثل في ربط الأحكام والتوجهات السياسية للحركات الإسلامية بالدين الإسلامي، الأمر الذي جنى على تلك الحركات وعلى الجمهور وعلى الإسلام نفسه.
يكمن الإشكال في أن الحاكم/الإنسان عندما تصدُر عنه سياسة أو يصدر عنه حكم ثم يشيع أن هذا الحكم هو حكم الله – في حين أنه مجرد اجتهاد بشري – فإن ذلك يكون أدعى لأن يربط البعض هذا الحكم – مباشرة – بالله، وبما أن «نظام الحكم السياسي» تشوبه عادة الأخطاء والانحرافات فإن الخطورة تكمن في نسبة هذه الأخطاء والانحرافات للحكم الإلهي، لا لنظام الحكم.
ويأتي ضمن ذلك بعض الظواهر التي رُصدت أثناء الاحتجاجات الإيرانية ضد نظام الحكم الثيوقراطي في طهران، والتي تستحق التوقف عندها، ومنها «إلقاء بعض المحتجات حجابهن وقص شعورهن»، وكذا «إسقاط عمائم بعض المعممين في الشوارع»، الأمر الذي جعل بعضهم يُجبَر على الخروج في بعض المدن، دون عمامته، خوفاً من الهجوم عليه من قبل بعض الناقمين على النظام، ناهيك عن حرق بعض المراكز والحوزات الدينية، عدا عن الهتافات المستمرة التي يرددها المحتجون، وهم يصرخون: «لا نريد الجمهورية الإسلامية»، وكذلك قلع أية لوحة تحمل اسم «جمهوري إسلامي»، وهو الأمر الذي يوحي للمتابع بأن الكثير من الإيرانيين يحملون غضباً متزايداً على سلطة المعممين في بلادهم، وربما ذهب بعضهم إلى تحميل الإسلام نفسه مسؤولية ما يعانيه الشعب الإيراني، رابطاً بين سلوك النظام وتعاليم الإسلام، بعد أن وضع علي خامنئي نفسه في مقام «آية الله» والحاكم بأمر الله.
وهنا تكمن الإساءة التي تقدم عليها الأنظمة والحركات الإسلامية عندما تُصَدِّر أفكارها ومعتقداتها وسياساتها الأمنية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية على أساس أنها هي الإسلام، وأن «حكم الإنسان» هو «حكم الله»، وفي حال مخالفة هذا الحكم فإن الإنسان يقع تحت طائلة الآية: «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون».
وهي الإساءة ذاتها التي تنال من قدسية الآيات التي تُرفع كشعارات سياسية أو انتخابية، مثل أن تُكتب على راية حزب الله اللبناني الآية: «فإن حزب الله هم الغالبون»، على أساس أن هذا التنظيم هو التجسيد الفعلي للآية المكتوبة على الراية التي مورس باسمها أبشع أنواع التصفيات الطائفية في أكثر من بلد عربي، أو كما تطلق جماعة الحوثي في اليمن على نفسها «أنصار الله»، ويحوي شعارها الآية: «يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله»، مع ما تقوم به هذه الجماعة من جرائم وصفتها الأمم المتحدة بأنها جرائم حرب.
ولا يبعد عن ذلك توظيف النصوص الدينية بكتابتها على رايات لجماعات متطرفة اقترفت جرائم بشعة باسم الإسلام، مثل أن تكتب بعض الميليشيات المتطرفة التي تمارس أعمالاً إرهابية: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» على راياتها، بما في ذلك من تجريف لمحتوى تلك النصوص الدينية على يد تلك الجماعات التي نصبت نفسها وكيلة لله على عباده.
إن رسم الآيات القرآنية على شعارات أو رايات لجماعات سياسية أو دينية لا يرفع من شأن هذه الجماعات في أنظار الناس، قدر ما يسيء للآيات الكريمة التي أريد لها أن تتحول إلى شعارات سياسية تعبوية لجماعات ارتبطت بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، كما أن تصوير الأنظمة السياسية على أساس أنها التجسيد العملي لـ«الأحكام الإلهية»، إنما هو محاولة لإبعاد أية معارضة بترهيبها على أساس أنها معارضة لله وأحكامه، وأن مشكلة المعارضين ليست مع السلطة الحاكمة، ولكن مع الله، على حد تعبير وزير إعلام الحوثيين في اليمن.
للإشتراك في قناة ( اليوم برس ) على التلغرام على الرابط
https://telegram.me/alyompress
اقرأ ايضا :
اضف تعليقك على الفيس بوك