كغيره من القطاعات الأخرى (السياسية والأمنية والتعليمية والصحية، الخ)، يُعاني الأقتصاد الوطني من خلل هيكلي تعود أسبابه إلى غياب الرؤية والأستراتيجية الأقتصادية السليمة الشاملة التي تقوم عليها أقتصادات الدول والأطر الناظمة المتعارف عليها. يعزو ذلك الخلل ليس لغياب التشريعات القانونية المنظمة أو لقلة الخبرة والكفاءات الوطنية، بل لغياب الإرادة السياسية وما تحمله من إيجندات تعمل أشبه من نُسميه في غرف العناية المركزة وغرف الأنعاش والطوارئ في تقديم حلول أسعافية ولا تحمل رؤية واضحة للأستقرار البعيد المدى!
كما تعود بعض من أسباب الخلل الهيكلي إلى كثير من الممارسات الخاطئة على مر العقود الماضية والتي أتسمت بغياب الشفافية والمحابة في الدفع برؤوس أموال وتقويض أخرى، من مُنطلق نفعي بحت لدى متخذي القرار السياسي في البلد، أدت إلى شعور بعض البيوت التجارية إلى الشعور بالغبن والبحث لها عن ملاذ آمن في دول المهجر! لقد فاجئني ذلك العدد الهائل من رجال المال والأعمال اليمنيين الذين فضلو أن يستثمروا أموالهم في بلدان المهجر والأغتراب على بلادهم، بل أن الأغلبية منهم قد فضل أن يحمل جنسيات تلك الدول وعدم الرغبة في العودة إلى الوطن! لا أبالغ أن أشرت، بأنه وحيث أعمل الآن في كنيا، بأن البيوت التجارية اليمنية قد أسهمت بشكل فعال في تنمية الأقتصاد الكيني ، بل ودول القرن الأفريقي وأفريقيا الشرقية كلها (جيبوتي، أثيوبيا، تنزانيا، أوغندا، روندا، بروندي، وغيرها). لا يتقصر ذلك على دول أفريقيا فقط، كذلك هو الحال في دول الشرق الآدنى في آسيا ( كأندونسيا، وبروناي، وسنغافورة، وماليزيا) والتي دخلها التجار اليمنيين منذ قرون وأدخلوا رسالة الأسلام (رسالة المحبة والسلام) معهم! وكذلك الحال في دول كثيرة من دول الغرب في أوربا والأمريكيتين!
والسؤال الذي يطرح نفسه وبقوة، كيف أستطاع هولاء التجار (من أفراد وجماعات)، أن يضعوا لهم موضع قدم مكّنهم إلى أن يكونوا في الريادة الأقتصاية وأصبحوا شركاء أصيلين في بناء مجتمعات تلك الدول؟ وما هي الأسباب في عزوف أولئك التجار من العودة إلى وطنهم للأستثمار والمشاركة في البناء التنموي لبلادهم؟ كانت تلك الأسئلة محور حديثي مع بعض من ألتقيتهم ، وكان الجواب المشترك بأن رأس المال بحاجة إلى ملاذ آمن يمكنه من العمل بحرية وبدون تحرش السلطات ومحاولة المتنفذين في السلطة التسلق والتسلل إلى رؤوس تلك الأموال وأجبارهم على مشاكتهم فيها دون أدنى حق، وغياب الشفافية (الموجودة على الورق ولا محل لها من الأعراب على أرض الواقع)!
كنت أتمنى من سفاراتنا في الخارج ( وملحقياتها الأقتصادية) أن تُعد دراسات بسيطة عن تلك البيوت التجارية و مجالات أعمالها وحجم أستثماراتها، لأنها أن فعلت ذلك ستصيب الجميع بالذهول لأن تلك الأموال مجتمعة تكاد تفوق ما لدى دول الجوار النفطية الغنية !
وبالنظر مرة أخرى في دور القطاع الخاص الوطني، والذي لعب دوراً بارزاً على مدى العقود الماضية، سنجد أنه هو عانى هو الآخر أشد المعاناة من الأقصاء في صنع القرار تارةً، أو التهميش كونه لا يدين بالتبعية لبعض متخذي القرار في المطبخ السياسي والذين لاهم لهم الا أن يبنوا أمبرطوريات أقتصادية على حساب التسلق على رؤوس أولئك التجار، مستغلين بذلك مناصبهم السياسية والعسكرية أسوء أستغلال! ومن رغب من أولئك التجار مرغماً في الرضوخ لتلك المطالب الشاذة، وجد نفسه يقاسمهم أصوله وممتلكاته وأرباحه ، والرضى بأقل القليل بغية الأستمرارية في سوق العمل!
ولكن هناك شريحة لم نتطرق بعد إليها على الرغم من أهميتها القصوى! الا وهي شريحة الأقتصاديين الأكادميين والذين درسوا وتخرجوا من جامعات عالمية مشهود لها بالريادة في تخريج أقتصاديين بارزين على مستوى العالم! أين أولئك من الوضع الأقتصادي الراهن في البلد؟ هل دورهم يكمن فقط في الحصول على مناصب وظيفية ووضع شهادتهم على الحائط؟ أو العمل في غرف مغلقة لسن القوانين والتشريعات الأقتصادية بمعزل عنما يجري في السوق؟ أم العمل في القطاع الخاص للحصول على رواتب مغرية وكفى؟!!
أريد أن أوجه لهم سؤالاً عاماً: ما الفرق بين دوركم (في البحث عن طرق مُثلى لأنعاش الأقتصاد اليمني) ودور الأطباء ( في غرف العناية المركزة في الحفاظ على حياة المرضى بأذن الله)؟ أن كنتم ترون أن سؤالي غير ذي صلة، فأنا أطلب السماح والعفو على زلة اللسان والقلم تلك! وأن كنتم ترون بأنه سؤال مشروع وذو صلة، فلما لا تتحركون بشكل فوري وجماعي وتضعوا خُططكم ومبادراتكم بمواجهة ومعالجة شبح الأنهيار الأقتصادي القادم؟!! أنا لست متخصصاً مثلكم أيها الأقتصاديون حتى أنُّظر في ساحتكم، ولكني على علم تام بأن أي أنهيار أقتصادي يتطلب سنوات طويلة من التأهيل والعودة الطبيعية (متى توفرت الإرادات)، ولنا في العام 1994 خير دليل!
كما يتعين علينا إدراك أن الحلول السحرية ليست في المساعدات والقروض الأجنبية، بل بأستكشاف الفرص الوطنية البديلة ونقاط القوة وتنميتها ودارسة مواطن الضعف والتهديدات ومعالجتها. ولا نتظر دور الحكومة الغائب اليوم والمغيب منذ عقود، بل يتوجب علينا المبادرة في طرح تلك الحلول وتقديمها للرأي العام (قبل الحكومة)، وفرضها على الواقع، ومن منطلق الحرص الوطني البحت وحب الوطن، أن كان لازال لحب الوطن في قلوبنا مكان...!
للإشتراك في قناة ( اليوم برس ) على التلغرام على الرابط
https://telegram.me/alyompress
اقرأ ايضا :
اضف تعليقك على الفيس بوك