للزلزال الذي ضرب سورية قبل أسابيع هزّاتٌ ارتداديةٌ لم تنطلق بعد من عقالها، لكنّها تستحق، على أيّ حال، أن ننشغل بمحاولة استكشافها، وأن نبحث في تأثيراتها المحتملة، فبعد انهيار نظام الأسد، الذي حكم هذا البلد العربي المحوري أكثر من نصف قرن، يواجه النظام السوري الجديد، الذي لم تتحدّد ملامحه النهائية بعد، تحدّيات داخلية وخارجية ضخمة سيترتب على نهجه في التعامل معها نتائج بعيدة المدى، لن تقتصر تأثيراتها على الداخل السوري وحده، وإنما يتوقّع أن تتّسع لتشمل منطقة الشرق الأوسط كلّها. ولأن النظام السوري القديم لم يسقط بسبب ثورة سياسية واجتماعية توجّه بوصلتها رؤية موحّدة أو متجانسة، وإنّما هزم في مواجهة مسلّحة أشعلتها فصائل وتنظيمات محلّية متباينة المشارب والتوجهات، ودعمتها بالمال والسلاح قوىً خارجيةٌ متباينةُ المصالح والأهداف، يتوقّع أن يتعرّض النظام الذي سيحلّ في محلّه، والذي ما زال في طور التشكيل، لتجاذبات داخلية وخارجية قد تحول دون تمكينه من مواجهة تحدّيات هائلة تنتظره على الصعيدين الداخلي والخارجي. والخشية أن تمهّد هذه التجاذبات إلى تهيئة ظروف وأوضاع تساعد في تفسّخ المجتمع السوري وانقسامه بين كانتونات تستند في ترسيمها إلى أسس ومعايير طائفية أو عرقية.
سورية مجتمع متعدّد الأعراق والأديان والطوائف والمذاهب والملل والنحل. ولأن نظامها السياسي المنهار اتهم بالانحياز إلى الطائفة العلوية التي ينتمي إليها قادته، وبتهميش باقي الطوائف الأخرى، يتوقّع أن تمارس القوى والتيارات السياسية والاجتماعية التي عارضته ضغوطاً شديدة لضمان أن تُفسَح أمامها مجالات أوسع للمشاركة في عملية صنع القرار، وللحصول على حصّة أكبر في الناتج القومي وفي عوائد التنمية الاقتصادية والاجتماعية. غير أن قدرة النظام الذي يجري تأسيسه على الاستجابة لهذه المطالب المشروعة، وعلى تبنّي قيم التعددية والمواطنة وحكم القانون وتداول السلطة، تبدو محدودة لسببَين رئيسَين: الأول هو انفراد هيئة تحرير الشام بتصدّر المشهد السياسي الراهن، وحرص هذه الهيئة على التحكّم وحدها في مفاصل إدارة المرحلة الانتقالية.
ولأنّها لا تمثّل إلا تيّاراً سياسياً وأيديولوجياً محدّداً، هو تيار السلفية الجهادية، ضمن جبهة معارضة واسعة تضمّ ألوان الطيف السياسي والأيديولوجي، تبدو الحاجة ماسّة لأن يتّفق الجميع على شكل ومضمون النظام السياسي، الذي ينبغي له أن يحلّ في محلّ النظام الذي انهار، وإلا فسوف يدبّ الخلاف بين هذه الفصائل، إن آجلا أو عاجلاً، بل ليس من المستبعد أن يتطوّر هذا الخلاف إلى الدرجة التي قد تغري بعض الأطراف بالاحتكام إلى السلاح لحسمه. السبب الثاني هو انخراط قوىً إقليميةٍ ودوليةٍ عديدة في الأزمة السورية، سواء عبر وجود عسكري كبير ومؤثّر لهذه القوى، أو عبر ارتباطاتها السياسية والمصلحية والأيديولوجية بواحد أو أكثر من الفصائل المحلّية المتصارعة. وما لم يتمكّن النظام الذي يتشكّل الآن من تحييد هذه القوى وإقناعها بإنهاء وجودها العسكري في الأراضي السورية، فلن يكون بمقدوره أن يحظى بالشرعية التي يحتاجها لتثبيت دعائمه ووجوده في الساحة، أو ادّعاء تمثيله الشعب السوري بأطيافه كلّها، السياسية والأيديولوجية.
هناك علاقة ارتباط سببية وعضوية بين العاملَين، إذ يصعب على القوى والتيّارات السياسية والأيديولوجية المشكّلة لمجمل ألوان الطيف السياسي والأيديولوجي في سورية أن تجد أرضيةً للتوافق على شكل النظام السياسي المأمول ومضمونه، إلا إذا تمكّنت من الاتفاق على رؤية موحّدة لإدارة العلاقة التي ينبغي أن تربط بين سورية الجديدة والعالم الخارجي، خصوصاً مع القوى الإقليمية والدولية التي لها وجود عسكري في الساحة السورية، والعكس صحيح أيضاً، فلن يكون بالإمكان إقناع الأخيرة بسحب قواتها من سورية إلا إذا أيقنت أن أمامها جبهة داخلية موحّدة وصلبة، تصرّ على تحقيق هذا الانسحاب. ولأنه ليس من المتوقّع أن تسحب الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإسرائيل قواتها الموجودة حالياً في الأراضي السورية إلا في مقابل أثمان باهظة قد لا تقوى الجبهة الداخلية على تحملها، يصبح من السهل علينا أن نتوقّع أن الأزمة السورية تتّجه نحو التعقيد والتصعيد بأكثر ممّا تتّجه نحو التهدئة أو الانفراج.
للولايات المتحدة قاعدة عسكرية كبيرة في سورية، تدّعي أن وجودها ضروري لمحاربة "داعش"، من ناحية، ولتقديم العون لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تشترك معها في السعي لتحقيق الهدف نفسه المتعلّق بالقضاء على الإرهاب، من ناحية أخرى. ولروسيا أيضاً قاعدة بحرية وجوية كبيرة في مياه سورية الدافئة، حصلت عليها بموجب اتفاقية أبرمت مع النظام السابق وبناءً على طلبه. ولأن لوجود هذه القاعدة أهمية حيوية بالنسبة للنفوذ الروسي في المنطقة، لن تفرّط فيها روسيا بسهولة، ومن ثمّ يُتوقّع أن تحاول جاهدة الإبقاء عليها عبر ترتيبات خاصّة مع هيئة تحرير الشام. أمّا تركيا وإسرائيل، اللتان تربطهما بسورية حدود جغرافية مشتركة، فمن الطبيعي أن يسعيا على الدوام إلى أن يكون لكلّ منهما وجود عسكري في سورية أكثر ثقلاً وتأثيراً من أيّ طرف آخر، خصوصاً أن لكلّ منهما أطماعا ودوافع مختلفة يصعب إخفاؤها، فقد ظلّت تركيا طرفاً رئيساً حاضراً في الأزمة السورية منذ اندلاعها عام 2011، وأصبحت ممرّاً ومعبراً لكلّ القوات الأجنبية التي شاركت في الحرب على النظام القديم، ولذا تربطها علاقات وثيقة بالعديد من فصائل المعارضة السورية، في مقدّمتها هيئة تحرير الشام. ولأن لها أطماعا تاريخية في الأراضي السورية التي تحتل مساحات شاسعة منها حالياً، بدعوى حاجتها إلى منطقة عازلة تحميها من الهجمات التي تشنّها المنظمات الكردية "الإرهابية"، التي تتّخذ من الأراضي السورية ملاذاً آمنا لها، يُتوقّع أن تبذل تركيا كلّ ما في وسعها للإبقاء على نفوذ دائم لها في سورية. أمّا إسرائيل فقد انتهزت فرصة سقوط نظام الأسد وقرّرت الإجهاز على ما تبقى من مقدرات الجيش السوري، والاستيلاء في الوقت نفسه على مناطق استراتيجية مهمّة تزيد مساحتها على 400 كيلومتر مربّع. ولأنها لم تعتد تقديم هدايا مجانية لأحد، فستحاول مقايضة انسحابها من بعض هذه الأراضي بمعاهدة سلام دائم تبرمها مع سورية، وليس من المستبعد أن تحاول توظيف الولايات المتحدة لتحقيق هذا الهدف، خصوصاً بعد دخول ترامب البيت الأبيض يوم 20 من يناير/ كانون الثاني الحالي.
لدى نتنياهو قناعة تامة بأنه لعب شخصياً دوراً حاسماً في إسقاط نظام الأسد، عبر ضربات موجعة ومتكرّرة وجّهها إلى حلفاء الأسد الرئيسيّين، خصوصاً إيران وحزب الله، وبأن إسقاطه قطع طريق الإمدادات العسكرية لحزب الله الذي لن يستطيع بعد الآن أن يعيد تسليح نفسه من جديد وأدّى بالتالي إلى إضعاف النفوذ الإيراني في المنطقة. لذا يعتقد أن الوقت قد حان لتوجيه ضربة قاصمة لإيران، التي يعتبرها "رأس الأفعى"، ويراهن على إقناع ترامب بالاشتراك معه في توجيه تلك الضربة التي يأمل أن تؤدّي، ليس إلى تدمير البرنامج النووي الإيراني فحسب، وإنما أيضاً إلى إسقاط النظام الإيراني نفسه، وعندها سيكون نتنياهو قد نجح في تحقيق "النصر المطلق"، الذي قال إنه يسعى إليه منذ "طوفان الأقصى"، ومن ثمّ سيسعى على الفور للعمل على إملاء شروطه على الجميع: ضمّ جميع مستوطنات الضفة الغربية إلى الكيان، والشروع في إعادة بناء المستوطنات اليهودية في قطاع غزّة، وإبرام معاهدة سلام ليس مع سورية الجديدة فحسب، ولكن مع السعودية في الوقت نفسه.
لستُ هنا في حاجة إلى مناقشة ما إذا كانت حسابات نتنياهو هذه تستند إلى معطيات واقعية، أم أنها تصدُر من خيال جامح ومنفلت لشخصية سيكوباتية، فمصير الكيان الصهيوني هو الزوال الحتمي في جميع الأحوال، آجلاً أو عاجلاً، خصوصاً أن لدى كاتب هذه السطور إيمانا عميقا يطمئنه دائماً إلى أن المقاومة ستنتصر حتماً، طال الزمن أم قصر. لكن ماذا لو صحّت حسابات نتنياهو على المدى القصير؟... لو طلبت نصيحة إلى الأنظمة العربية الغارقة حالياً في سبات عميق لقال الكاتب إن عليها أن تستعدّ دائما للسيناريو الأسوأ، وأن تسأل نفسها عن الشكل الذي سيكون عليه حال المنطقة فيما لو أقدم الكيان الصهيوني على ضرب إيران، وردّت الأخيرة بضرب المصالح الأميركية في المنطقة.
*د . حسن نافعه - استاذ العلوم السياسية - جامعة القاهرة - عن العربي الجديد
للإشتراك في قناة ( اليوم برس ) على التلغرام على الرابط
https://telegram.me/alyompress
اقرأ ايضا :
اضف تعليقك على الفيس بوك