حدد الآباء المؤسسون للولايات المتحدة الأميركية ثلاث سلطات منفصلة، تشريعية يمثلها الكونغرس، وتنفيذية يمثلها الرئيس، وقضائية تمثلها المحكمة العليا الأميركية مع وجود قيود لصلاحيات كل منها، حتى لا يستطيع شخص أو طرف واحد الاستيلاء على النظام. لكن بعد أقل من شهر على توليه الرئاسة مجدداً، تغلب الرئيس الأميركي دونالد ترامب على قيود سلطة الكونغرس وتجاوزها، مرة مستغلاً أداة دستورية استثنائية الأصل يطلق عليها الأوامر التنفيذية تسمح للرئيس باستخدام صلاحيات تشريعية بجانب الدستور وقوانين الكونغرس، ومرة أخرى بتجاهل قوانين الكونغرس برمتها، ما أدى إلى تفجر صراع السلطات في أميركا وسط صرخات الديمقراطيين وصمت جمهوري كامل.
وتصاعد صراع السلطات في أميركا مع مخالفة ترامب بقراراته فصل موظفين فيدراليين القانون، إذ تنص قرارات وقوانين أصدرها الكونغرس تنص على عدم فصل موظفين فيدراليين دون متطلبات وأسباب معينة، وأحياناً على الحكومة الفيدرالية أن تنتظر لمدة 30 يوماً، وأحياناً لا يمكن فصل الموظفين دون إخطار الكونغرس. لكن حملة ترامب ومستشاره إيلون ماسك، والتي بات يطلق عليها صفة "التطهير" تواصلت، أمس السبت، بطرد أكثر من 9500 موظف كانوا يضطلعون بمهام عديدة، من إدارة الأراضي الاتحادية إلى رعاية قدامى المحاربين. وتم إنهاء عمل موظفين في وزارات الداخلية والطاقة وشؤون قدامى المحاربين والزراعة والصحة والخدمات الإنسانية، في حملة استهدفت في معظمها حتى الآن الموظفين تحت الاختبار في عامهم الأول من العمل، ممن يتمتعون بمستوى أقل من الأمان الوظيفي. بالإضافة إلى عمليات الفصل، قال البيت الأبيض إن نحو 75 ألف موظف قبلوا عرضاً من ترامب وماسك للاستقالة طواعية. ويعادل هذا نحو 3% من القوة العاملة المدنية التي يبلغ قوامها 2.3 مليون.
ونقلت قناة "سي أن أن"، أول من أمس، عن مصدر مطلع قوله إن إدارة ترامب تجبر كبار المسؤولين في إدارة المحفوظات والسجلات الوطنية على الاستقالة في إطار عملية تغيير كبيرة. وهذه الإدارة مسؤولة عن الإشراف على السجلات الحكومية، وترؤس المحفوظات الوطنية، وهي هيئة انتقدها ترامب مراراً لأنها أبلغت وزارة العدل بكيفية تعامله مع وثائق سرية مطلع 2022 بعد نهاية فترة رئاسته الأولى. كما تجاهل ترامب تمرير الكونغرس قوانين من أجل إنفاق الأموال الفيدرالية بطريقة معينة. وعلى الرغم من أن الكونغرس، طبقاً لمبدأ الفصل بين السلطات، يبلغ الرئيس بما يجب أن يفعله، فإن ترامب، في المقابل، يقوم بما هو مخالف تماماً لما أقرته السلطة التشريعية، وهو تحول، حتى الآن، إلى صانع القرار الوحيد وسط محاولات للحد من تغوله وتفجر صراع السلطات في أميركا من خلال اللجوء إلى المحاكم.
أكثر من 37 دعوى ضد إجراءات ترامب
وفي إطار صراع السلطات في أميركا تم تحريك تسع دعاوى قضائية ضد قرار ترامب تقييد حق المواطنة بالولادة، فيما قضت ثلاث محاكم برفض قرار الرئيس، وبالتالي لا يزال يحق لأي شخص مولود في أميركا الحصول على الجنسية. وفي ما يخص قرار إدارة ترامب بتجميد التمويل الفيدرالي، رفضت المحاكم هذا الأمر في ثلاث دعاوى تم رفعها أمامها، لكنها لم تصدر بعد أي قرار في خمس دعاوى تم رفعها ضد إنشاء إدارة الكفاءة الحكومية التي أصبحت في يد ماسك، بعد انسحاب الملياردير فيفيك راماسوامي من المشروع الذي يروج ترامب وفريقه أنه يهدف إلى خفض إنفاق الحكومة الفيدرالية وتعظيم كفاءتها.
وقيدت محاكم، التي رُفع أمامها تسع دعاوى، منح هذه الإدارة حق الوصول إلى بيانات المستخدمين والمواطنين وبيانات وزارة الخزانة. وهناك خمس دعاوى ضد تفكيك الوكالات، مثل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وسبع دعاوى ضد استهداف الموظفين الفيدراليين. وفي إطار صراع السلطات في أميركا بلغ إجمالي عدد القضايا التي صدرت فيها أوامر قضائية من المحاكم الفيدرالية لمنع عدد من الإجراءات لإدارة ترامب 13 أمراً قضائياً.
وعلى الرغم من إشارة ترامب، في تصريح صحافي قبل أيام، إلى أنه يواجه تحديات قانونية، زاعماً أن قضاة يسعون إلى إحباط أجندة إدارته، فقد أعلن أنه سيلتزم بقرارات القضاء وسيستأنف ضد الأحكام التي لا يتفق معها. وفي إطار صراع السلطات في أميركا اتهمت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولين ليفات، خلال مؤتمر صحافي الخميس الماضي، القضاة بعرقلة إجراءات إدارة ترامب، والتسبب بأزمة دستورية، معتبرة أن ما يحدث استمرار لـ"تسييس العدالة"، وقالت: "الأزمة الدستورية الحقيقية تحدث داخل السلطة القضائية، إذ يسيء قضاة المحكمة الجزئية والمناطق الليبرالية في جميع أنحاء البلاد استخدام سلطتهم لمنع السلطة التنفيذية الأساسية للرئيس من جانب واحد".
وكانت محكمة فيدرالية قضت، الاثنين الماضي، بأن إدارة ترامب لم تتبع بالكامل أمرها بإلغاء تجميد الإنفاق الفيدرالي، وأمرت البيت الأبيض بالإفراج عن جميع الأموال. وحكم القاضي الفيدرالي جون ماكونيل الابن، في المحكمة الفيدرالية في رود آيلاند، على مسؤولي إدارة ترامب بالامتثال بـ"النص الواضح" للقرار الذي أصدره الشهر الماضي. وبعد ساعات من قرار المحكمة تم تجاهل القرار من جديد، ولكن هذه المرة من قبل مسؤول كبير في الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ الذي أصدر تعليمات لمرؤوسيه بتجميد التمويل لمجموعة واسعة من برامج المنح. ويتجاهل البيت الأبيض أن رؤساء جمهوريين عينوا عدداً من هؤلاء القضاة، أي أنهم يميلون إلى التيار المحافظ وليس التيار الليبرالي. كما أن أحدهم عينه ترامب نفسه، وهو القاضي كارل نيكولز، الذي أصدر حكماً بمنع خطة لوضع 2200 موظف في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في إجازة مدفوعة الأجر.
وأشار قانونيون إلى أن هناك بالفعل معضلة كبيرة لإمكانية حل صراع السلطات في أميركا خاصة في ظل تجاهل الجمهوريين في الكونغرس التحرك ضد قرارات ترامب، لكنهم في الوقت ذاته يعتبرون أن الأمر لم يصل لمرحلة الأزمة الدستورية، موضحين أن المراجعة القضائية لعمل السلطة التنفيذية سمة من سمات الدستور الأميركي، وليس عيباً فيه، وأنه إذا تجاهل ترامب أوامر المحكمة العليا الأميركية فإن الظروف ستكون مختلفة تماماً.
المحكمة العليا تفصل في صراع السلطات في أميركا
وفي إطار حل صراع السلطات في أميركا يتمتع القضاة الفيدراليون بسلطة فرض الغرامات وإدانة الأطراف بعدم اتباع الأوامر، قبل أن ينتقل الأمر إلى المحكمة العليا الأميركية التي تفصل بين السلطات. ورأى أساتذة قانون علامات تحذيرية على أزمة دستورية. وقالت كريستين هيكمان، أستاذة القانون الإداري في كلية الحقوق بجامعة مينيسوتا، للإذاعة الوطنية (إن بي آر)، قبل أيام: "لم نصل إلى هناك بعد، وليس لدينا أي ضمان بأننا سنصل إلى ذلك"، فيما أعربت أستاذة القانون بجامعة فيرجينيا أماندا فروست عن اعتقادها أنه حتى اليوم لم تتخذ السلطة التنفيذية موقفاً مفاده أنها تستطيع انتهاك أوامر المحكمة أو أنها لا تحتاج للامتثال لها. ورأى بليك إيمرسون، أستاذ القانون والعلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا، تهديداً ملموساً. وقال، في تصريح صحافي أخيراً: "نحن نشهد الآن قفزة إلى مستوى جديد، إذ يزعم الرئيس أن له السلطة للتصرف خارج حدود القانون الذي وضعه الكونغرس، وإذا حدث ذلك، فإن المخاطر المتعلقة بالطغيان أو الدكتاتورية ستكون حقيقية".
ورأت صحيفة وول ستريت جورنال، أخيراً، أن البلاد لم تصل بعد إلى أزمة دستورية، رغم وصفها لقرارات ترامب بأنها "تصرفات عدوانية". وقالت: يبدو أن معظم القرارات الداخلية التي اتخذها ترامب تستند إلى أرضية قانونية قوية، وبعضها قابل للنقاش قانونياً وقد تقرره المحاكم، وفي حالات أخرى، يبدو أن ترامب ينتهك القانون الحالي عمداً لنقل قضايا إلى المحكمة العليا لاستعادة ما يعتبره قواعد دستورية، ولا شيء من هذا يشكل أزمة دستورية". وأكدت أن تحدي ترامب لأي حكم صادر عن المحكمة العليا سيؤدي إلى أزمة حقيقية.
ويتفاخر ترامب بأنه الرئيس الذي نجح في قلب المحكمة العليا إلى محافظة لنحو 25 عاماً مقبلة على الأقل، بعد تعيينه ثلاثة قضاة محافظين في دورته الرئاسية السابقة، إذ إنه منذ ستينيات القرن الماضي لم يعين أي رئيس أميركي أكثر من قاضيين. ورفع ترامب، خلال ولايته الأولى، المحافظين بالمحكمة إلى ستة مقابل ثلاثة قضاة ليبراليين. وتعد المحكمة العليا الأميركية أعلى سلطة قضائية في الولايات المتحدة وهي المفسر النهائي للقوانين ونصوص الدستور وهي التي تفصل خلال صراع السلطات في أميركا وتؤثر قراراتها في حياة جميع الأميركيين، ويستمر قضاة المحكمة العليا الأميركية في مناصبهم مدى الحياة. ويعد هذا العدد من القضاة من أهم إنجازات ترامب لناخبيه المحافظين، نظراً لدورهم الفعال في تبني أو إعاقة سياسات الرئيس الداخلية، خاصة أنهم يحكمون في القضايا العقائدية والحزبية، مثل التصويت والإجهاض والإعدام لعقود قادمة. ودستورياً لا يمكن للرئيس الأميركي فصل قضاة المحكمة العليا إذ يجري تعيينهم مدى الحياة، ورغم ذلك فإن أقل من نصفهم توفوا وهم أعضاء بالمحكمة، واختار التقاعد أو الاستقالة 57 عضواً، في حين توفي 51 عضواً وهم في مناصبهم. ويرشح الرئيس أعضاء المحكمة العليا على أن يوافق مجلس الشيوخ عليهم بأغلبية بسيطة.
للإشتراك في قناة ( اليوم برس ) على التلغرام على الرابط
https://telegram.me/alyompress
اقرأ ايضا :
اضف تعليقك على الفيس بوك