تتجه أنظار العالم إلى إسطنبول التركية، غداً الخميس، وسط ترقب لانعقاد أول جولة من المفاوضات الروسية الأوكرانية المباشرة بعد تعثر دام لأكثر من ثلاث سنوات، في ظل تساؤلات حول مستوى المفاوضين الذين ستوفدهم روسيا، وضبابية آفاق التوصل إلى انفراجة سريعة في الغزو الروسي لأوكرانيا، مع تشبث كل طرف بمواقفه وتكيفه مع واقع الحرب. وبذلك لا يزال الغموض سيد الموقف فيما يتعلق بإمكانية إقامة الهدنة على أرض الواقع، نظراً لربط روسيا بسط هدنة طويلة الأجل بوقف توريد الأسلحة الغربية إلى كييف خلالها وغيره من الشروط.
وفي ظلّ ضبابية الموقف الروسي بشأن مشاركة الرئيس فلاديمير بوتين في المفاوضات الروسية الأوكرانية إلى جانب نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، فإن الأخير يراهن على نظيره الأميركي دونالد ترامب في السفر إلى تركيا، غداً الخميس، لإقناع بوتين بقبول مقترحه بعقد مفاوضات مباشرة لإنهاء الحرب. قال زيلينسكي في مؤتمر صحافي مساء أمس الثلاثاء في كييف "لا أعلم قرار الرئيس الأميركي، لكن إذا أكد مشاركته، أظن أن ذلك سيعطي زخماً إضافياً لبوتين للحضور". واتهم زيلينسكي بوتين، بأنه "لا يريد" إنهاء الحرب في أوكرانيا، لكنه أكد أنه "سيبذل كل ما في وسعه" لعقد هذا اللقاء غداً الخميس في تركيا وضمان وقف إطلاق النار. واعتبر زيلينسكي أن عدم مشاركة بوتين في المفاوضات ستكون "إشارة واضحة" على أنه "لا يريد للحرب أن تتوقف ولا يريد وقف إطلاق النار".
دعوة برازيلية لبوتين
من جهته، أكد الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، اليوم الأربعاء، خلال مؤتمر صحافي في بكين قبل توقفه في موسكو في طريق العودة إلى بلاده، أنه سيحضّ بوتين على لقاء زيلينسكي في تركيا. وأوضح الرئيس البرازيلي: "سأحاول التكلم مع بوتين. لن يكلفني شيئاً أن أقول له: الرفيق بوتين اذهب إلى إسطنبول للتفاوض". وفي وقت أحجم فيه الكرملين ووزارة الخارجية الروسية حتى آخر لحظة عن الكشف عن تشكيلة الوفد الروسي إلى المفاوضات، تؤكد كل المؤشرات أن بوتين، لن يذهب إلى إسطنبول، فيما نقلت صحيفة واشنطن بوست الأميركية عن مسؤول رفيع سابق بالكرملين، طلب عدم الكشف عن هويته، أن روسيا ستوفد وزير الخارجية، سيرغي لافروف، ومعاون الرئيس الروسي للشؤون الدولية، يوري أوشاكوف، اللذين شاركا في المفاوضات الروسية الأميركية في الرياض في فبراير/شباط الماضي.
مع ذلك، يعتبر تورال كريموف، الخبير في الشأن التركي، ومستشار مدير عام المجموعة الإعلامية الحكومية "روسيا سيغودنيا"، أن دعم ترامب لعقد المفاوضات الروسية الأوكرانية في إسطنبول، يعزز فرص نجاحها هذه المرة مقارنة مع تعثرها في نهاية مارس/آذار 2022، محملاً في الوقت نفسه السلطات الأوكرانية المسؤولية عن سعيها لإطالة أمد الحرب لما يعتبره "طموحات شخصية". ويقول كريموف الذي عمل رئيس تحرير وكالة سبوتنيك تركيا الروسية في أعوام 2014 - 2018، في حديث لـ"العربي الجديد": "يختلف الوضع اليوم عنه في ربيع 2022 من جهة أن الوساطة التركية باتت تحظى بدعم أميركي، مما قد يحول دون إفشال المفاوضات من قبل كييف ورعاتها الأوروبيين، إذ إن ضغوط ترامب تقلل من عدوانية الدول الأوروبية حيال المنصة التفاوضية التركية. إسطنبول اليوم مؤهلة أن تصبح وسيطاً ناجحاً، ولكن السلطات الأوكرانية معنية بإطالة أمد النزاع بسبب طموحاتها الشخصية وغموض مستقبلها في المرحلة ما بعد الحرب".
ويقر كريموف أن أنقرة تقف على المسافة ذاتها من طرفي النزاع الروسي الأوكراني، مضيفاً: "ينطلق موقف تركيا من مصالحها الوطنية ومساعيها لإنهاء النزاع في أسرع وقت وجني عوائد عن موقفها ودورها وسيطا. من ناحية ترفض تركيا الاعتراف بانضمام شبه جزيرة القرم ومنطقة دونباس (تضم لوغانسك ودونيتسك) الأوكرانية إلى روسيا، ومن ناحية أخرى تتهم الغرب بإشعال الحرب ضد روسيا وتغذيتها. ترفض تركيا الانضمام إلى العقوبات ضد روسيا وتعتبرها غير مشروعة، ولكن ذلك لا يمنعها من تزويد أوكرانيا بالسلاح وإقامة مصانع حربية لخدمة كييف على أراضيها".
وكانت شركة بيرقدار التركية المصنعة للمسيرات قد شرعت في بداية العام الماضي، بإنشاء مصنع لها في ضواحي كييف بطاقة إنتاجية 120 مسيرة سنوياً. إلا أن السفير الأوكراني لدى تركيا، فاسيلي بوندار، أكد في وقت لاحق أن المصنع لن يتم تشغيله بكامل طاقته إلا بعد انتهاء أعمال القتال مع روسيا. وبرزت مسيرات بيرقدار بسوق السلاح العالمية بعد أدائها دوراً فعالاً في الحرب الأرمينية الأذربيجانية في إقليم ناغورنو كاراباخ في نهاية عام 2020، مساهمة في نصر باكو التي أحكمت في عام 2023 السيطرة الكاملة على الإقليم المتنازع عليه.
في المقابل، يقلل ألكسندر تشالينكو الصحافي المتخصص في الشأن الأوكراني المقيم في موسكو، من واقعية نجاح المفاوضات الروسية الأوكرانية في إسطنبول وإقامة سلام مستديم في أوكرانيا، في ظل استعداد كل طرف لمواصلة أعمال القتال وتكافؤ ميزان القوى على الأرض وبطء التقدم الذي تحرزه روسيا واقتصاره على إحكام السيطرة على بعض البلدات الصغيرة في الشرق الأوكراني. ويقول تشالينكو، الذي تعود أصوله إلى مدينة دونيتسك شرقي أوكرانيا وزار منطقة القتال مرات عدة، في حديث لـ"العربي الجديد": "من الصعب التكهن بنتائج مفاوضات إسطنبول نظراً لإجراء كافة الترتيبات خلف الأبواب المغلقة، ولكن يمكن الجزم أن المشكلة الرئيسية تكمن في انعدام الوضوح حول دوافع موسكو وكييف للتفاوض، ما يعني أن أي اتفاقات قد تتمخض عنه لن تؤسس بالضرورة لسلام دائم، بل ستكون أقرب إلى تأجيل معركة الحسم نظراً للتكافؤ الميداني وتقدم القوات الروسية بوتيرة بطيئة للغاية".
ويشكك تشالينكو في صدق النيات الروسية والأوكرانية المزعومة لإنهاء النزاع فوراً، مضيفاً: "في عام 2014، تعرضت أوكرانيا لمجموعة من الهزائم الأليمة في دونباس، ما اضطرها للقبول باتفاقات مينسك للتسوية، ولكنها لم تهزم اليوم وجبهاتها لم تنهر بفضل الاستخدام الواسع للمسيرات الذي يقلل من الخسائر في الأفراد، وهي بذلك قادرة على مواصلة الحرب حتى من دون الاستجابة للضغوط الأميركية لخفض سن التعبئة من 25 إلى 18 عاماً. أما روسيا، فتكيفت مع واقع العقوبات الغربية غير المؤثرة على المواطنين الروس الذين وجدوا ملاذاً في شراء السيارات الصينية وقضاء عطلاتهم بالدول غير الأوروبية مثل تركيا ومصر والإمارات". ويضرب مثلاً على ذلك، قائلاً: "حتى قبل عام 2022، لم تكن سيارات مرسيدس الألمانية في متناول الأغلبية الساحقة من الروس، فلا تأثير لغيابها عن السوق الروسية اليوم".
مستقبل المفاوضات الروسية الأوكرانية
وكان بوتين قد أقر في 8 مايو/أيار الحالي، بأن روسيا أصبحت أكبر مستورد للسيارات الصينية على مستوى العالم، قائلاً خلال محادثاته مع الرئيس الصيني، شي جين بينغ، الذي زار موسكو للمشاركة في مراسم إحياء ذكرى مرور 80 عاماً على النصر على ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945): "نعزز بشكل متتالٍ التعاون الشامل في مجال الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة. أصبحت روسيا أهم مستورد للسيارات الصينية في العالم". وبالعودة إلى المفاوضات الروسية الأوكرانية في إسطنبول، شككت الصحافة الروسية هي الأخرى في واقعية حدوث انفراجة سريعة بين روسيا وأوكرانيا، إذ رأت صحيفة نيزافيسيمايا غازيتا، أن التطورات الجارية تقتصر على التصريحات والدعوات ورفع الرهانات، معتبرة أن دعوات ترامب منذ الأيام الأولى لرئاسته لإبرام "صفقة" تملي على موسكو وكييف الإظهار أن الطرف الآخر هو الذي يعرقل عملية السلام.
في المقالة الافتتاحية لعددها الصادر اليوم الأربعاء، تحت عنوان "هل تقرّب إسطنبول موسكو وكييف إلى السلام؟"، اعتبرت "يزافيسيمايا غازيتا" أن "السيل من المبادرات" لن يحقق بالضرورة السلام، جازمة أن لقاء بوتين وزيلينسكي يجب أن يستبقه عمل دؤوب وأيام طويلة من المفاوضات الروسية الأوكرانية وتقديم تنازلات صعبة، ومخلصة إلى أن "كييف تحتاج إلى علاقات طيبة مع ترامب، وموسكو إلى بقائه صانعاً للسلام وعزوفه عن دعم كييف بالمال والسلاح". وكان بوتين قد اقترح في مؤتمر صحافي عقده الأحد الماضي، على السلطات الأوكرانية استئناف المفاوضات المباشرة من دون شروط مسبقة، بهدف "إزالة الأسباب الجذرية للنزاع" و"إقامة سلام مستديم"، محملاً كييف المسؤولية عن فشل الهدن التي أعلنها في المرات السابقة. وفي معرض رده على تصريحات الرئيس الروسي، أكد زيلينسكي أنه بشخصه سينتظر بوتين في إسطنبول، مطالبا بإقامة هدنة فورية مدتها 30 يوماً.
للإشتراك في قناة ( اليوم برس ) على التلغرام على الرابط
https://telegram.me/alyompress
اقرأ ايضا :
اضف تعليقك على الفيس بوك