أبرز ما يُميّز الحضارة الفرعونية، عدا غرامها بالموت، هو شغفها بالتدوين بكلّ أشكاله: التدوين بالكلمة، والتدوين بالرسم، والتدوين بالنّحت. وكلّ هذه التوابيت التي لا تنفكّ أيدي المنقّبين عن نبشها، بدرجاتها وتفاصيلها، تحكي النصوصُ المدوّنة عليها قصصَ وهواجسَ وتاريخَ الموتى بحرص شديد. ويعود هذا الحرص إلى انشغال الفراعنة بالتماس أسباب النجاة في العالم الآخر، عالم الموتى. لكنّ هناك عالماً آخر لم يضعوه في الحسبان، وهو عالمنا الفضولي، المُغرم بالاستكشاف والتنقيب في آثار القُدامى.
لكن، ألم يخطر ببال الفراعنة أنّ آثارهم قد تجد جمهوراً في زمن لاحق؟ وإذا لم يفعلوا، فلِمَ كتبوا بهذه الكثافة والدقة والغزارة؟ لعلّهم تنبّؤوا في وقت ما، في عصور متأخرة، بقرّاء للكتب التي كُتبت على الحجارة والمرمر والغرانيت، في المدافن، التي تُمثّل وثائق مهمة على طول وعرض الجدران والتوابيت الحجرية.
بدأ الفراعنة بالكتابة على الأوراق ثم الخشب، ثم اكتشفوا أن الحجر أكثر مقاومة، فكتبوا عليه باعتباره مادة خاماً لكتابٍ صلبٍ شديدِ الموثوقية، في تجلٍّ قوي لإرادة الخلود عندهم. وبفضل هذا الهوس بترك مادة مكتوبة تروي تفاصيل كثيرة عن حياتهم ومعتقداتهم، استطعنا فهم ومعرفة هذه الحضارة على نحوٍ مدهش، حتى إنّنا لا نحتاج إلى فهم اللغة الهيروغليفية للتعرّف على قصص الفراعنة وميولاتهم وطبقاتهم، فالرّسوم والمنحوتات وحدها تقدّم معلومات وافرة. لكن مع ذلك، لا غنى عن اللغة التي تقدم تفاصيل أوفى، تُحوّل الأثر إلى كتاب مفتوح تكتمل فيه الكلمة مع الشكل، وهو ما أدركوه قبل غيرهم.
غرام بالموت والتملّك
هذا الهوس بالتدوين أكثر ما يُدهش زائر المتحف القومي المصري في القاهرة، فتنفتح أمامه صفحات كتاب ضخم يستعمل كتّابه الحروف والرموز والرسومات الدقيقة والملونة، لخدمة الأغراض شديدة الأهمية للفراعنة، وتكون المحصلة كتاباً معرفياً يفوق الهدف الأصلي لمؤلّفيه. ولا يملك الملاحظ لهذه الكمية من المومياوات والمدافن الفرعونية إلّا أن يتساءل عن سبب هوس حضارة كاملة بالموت، لكنْ لإنصاف الفراعنة، لا بدّ من الإقرار بأن الموت هوس جماعي، كرّسته الديانات التوحيدية الثلاث التي تعوّل على الجزاء الأخروي لأعمال الناس في الدنيا، وليس لهم سوى السعي إلى النجاة من عتمة الجحيم، بتفاصيل تختلف بين ديانة وأخرى.
الموت هوس جماعي كرّسته الديانات التوحيدية الثلاث
مع فارق جوهري، هو أن العالم الآخر الذي تعمل عليه هذه الأديان، تقوم فكرته على بعث الناس وهم عراة من كلّ متاع دنيوي، فأهم الأمتعة والممتلكات هي التي سيحصل عليها المؤمنون هناك، وبالتالي لا حاجة إلى ممتلكات الدنيا. بينما آمن الفراعنة بأن المرء يذهب إلى حياة لاحقة بكامل ممتلكاته الدنيوية، فكادوا يدفنون مع الملوك قصورهم، بعد أن دفنوا الزينة والذهب والمساعدين والكهنة.
الحداثة الفنية في مواجهة ثقافة الزينة
على خلاف معظم المنحوتات التي تعكس الغرام الكبير بالزينة لدى الفراعنة، هناك آثار تجريدية تُمثّل وجهات نظر تشبه ما يمكن أن نُطلق عليه الحداثة الفنية. مع توابيت وأبواب بأقلّ قدر من الكتابة والرسوم، على عكس أبواب أخرى تُظهر هوساً بتفاصيل الحياة الأخرى، وتكتب ما يكفي لحماية الميت من كل خطر محتمل على روحه أو جسده. ولِمَن لم يرَ تابوتاً فرعونياً، أو لا يعرف عن تقاليد الدفن الفرعونية، هناك تفصيل إضافي لا يُكتب عنه غالباً في أخبار اكتشاف التوابيت، وهو أن كل تابوت، خاصة تلك التي تعود إلى الأسر الملكية أو النخبة المقرّبة منها، يُرافَق بباب وهمي يؤدي إلى العالم الآخر.
وإلى جانب الأبواب، تُقدّم التوابيت أيضاً ميلاً إلى التجريد، بحفر مستطيلات بسيطة على طول التابوت. فيما يُوثّق نص وصية كا-إم-نفرت، المدعو بـ"الرفيق الأوحد"، ورئيس نُخَب في الأسرة الخامسة، حوالى القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد، على تابوته، بإسهاب، ظروف رحلته إلى عالم الموتى، إذ يكتب الرفيق نصّه بضمير المتكلم، شارحاً قواعد طريقة تلقّيه القرابين في العالم الآخر، في مقبرته. ولا يُغفل النصّ ذكر ظروف الوصية، فـ كا-إم-نفرت سجّل الخطاب وهو بصحة جيدة، سليم العقل والجسد، إذا تهيأ لأحدهم، آنذاك أو الآن، أنه كان عليلاً وهو يسرد آخر أمنياته.
وندرك قوة الزينة والمظاهر في العهد الفرعوني، حين نتعرّف على أكثر من شخص كان مسؤولاً عن بيت الزينة، مثل المدعو كا-إم-رحو، أمين البيت في إحدى الأسر. وتروي النصوص حول توابيت هؤلاء المسؤولين مهامهم ومسؤولياتهم مع زينة آل فرعون.
يعد الباب الوهمي الذي يرافق التابوت من أبرز مكونات المقبرة
أطرف ما في المتحف القومي، هو التعليقات في الملصقات المُعرِّفة للآثار، فنجد وصف بعض أصحاب التوابيت بـ"المدعو"، وهو أمر تكرّر كثيراً مع عدد من التوابيت، لكن لم يشمل كل الشخصيات الفرعونية في المتحف. فيما يُعنون ملصق آخر تابوت باو-إرديو، الذي كان يعمل كاهناً في الإقليم العاشر، بـ"احمني...". سرّ هذا التعليق أن هناك نقوشاً كثيرة تُفيد بحرص صاحب التابوت على الحماية من الأخطار المحدقة به في العالم الآخر، خاصةً استحضار أبناء حورس الأربعة، المسؤولين عن حماية الأحشاء الداخلية، تفادياً لسرقتها، فيما يقول ملصق تابوت آخر "امنحني الهواء"، لأن صاحبته كانت حريصة على التنفس في العالم الآخر هاجساً أوّل، وهو ما تكشف عنه النقوش المكتوبة على تابوتها.
مفتاح الحياة والأبواب الوهمية
في مشاهد وتوابيت الفراعنة كافّة، يحمل الأحياء والموتى مفتاح الحياة دائماً، قابضين عليه بإحكام. وكل ما هو مدوَّن على التوابيت يُعبِّر عن هاجس العبور السلس للأبواب الوهمية التي ترافق التوابيت، وهي أحد أهم مكونات المقبرة في مصر القديمة، ونقطة التقاء عالم الأموات بالأحياء. كل جانب من الباب هو صورة مرآة معكوسة من الجانب الآخر، فتعبر روح المتوفى من هذه البوابة، من الآخرة إلى عالم الأحياء لتستقبل القرابين، لذلك عادةً ما تُوضع مائدة قرابين أمام الباب من جهة هذا العالم الفاني.
تُعدّ الأبواب الوهمية عنصراً مهماً في فهم تطوّر العمارة الجنائزية لدى المصريين القدماء، ويمكن من خلالها تتبّع تحوّلات الأسلوب عبر العصور للتعرّف على فلسفة الموت والحياة لدى الأسر الفرعونية، إذ يُعتبَر الباب الوهمي مكوّناً معماريّاً أساسيّاً في مقابر الدولة القديمة لكونه مركز الجزء العلوي لأي مقبرة، وكان يحظى باهتمام وعناية صاحب المقبرة أثناء حياته.
ويمكن تأريخ المقابر بناءً على طراز الباب الوهمي وعناصره المعمارية، التي ارتبطت بفترات معينة دون غيرها. كما يمكن تأريخ المقابر بناءً على العناصر الزخرفية المنقوشة على الباب الوهمي، وهي: الاسم، والألقاب، والنعوت، وصيغ وقوائم القرابين، والمشاهد المصوَّرة لصاحب القبر وأفراد أسرته وحرفيّيه.
هناك أشكال عدّة للباب الوهمي، بعضها بسيط، وأكثرها مُسهب الزينة، وبالطبع تحمل هذه النقوش اسم صاحبها، مع كمية وافية من التعاويذ لحمايته وسلامته، وتذكر أحياناً ما قدّمه من قرابين للآلهة. وقد نُقش اسم أنوبيس إله الموت على كثير من الأبواب الوهمية في صيغة القربان، بعلامة ورقة النبات وموجة المياه والمقعد بهذا الشكل. فيما تُمثّل بقية الزخارف الأمور التي تشغل بال الميت، فعلى سبيل المثال، زُخرف الإفريز الأوسط للباب الوهمي للكاهن "كاعبر" بصورته وهو جالس على مقعد ذي مسند قصير للظهر، مرتدياً الباروكة والقلادة، ويشمّ إناءً للعطر، فيما تتقدّمه مائدة قربان تعلوها أرغفة خبز.
ويُذكّرنا اليوم العالمي للمتاحف، الذي يحتفل به العالم اليوم، بأنها ليست جدراناً تحفظ الآثار فحسب، بل هي مكتبات تضمّ كتباً ووثائق عظيمة تكشف الكثير عن تاريخ الإنسان. بينما تُمثّل متاحف الفن المعاصر نوافذ على عالم يخرج من الماضي بكل تناقضاته، ليدخل المستقبل متذبذباً بين العودة إليه والتنكر له.
للإشتراك في قناة ( اليوم برس ) على التلغرام على الرابط
https://telegram.me/alyompress
اقرأ ايضا :
اضف تعليقك على الفيس بوك