تعد إشكاليات التدخلات الإسرائيلية في حوض النيل -والتي تأخذ أشكالا متعددة، من بينها تقديم الدعم الفني والاقتصادي لدول الحوض، أو التدخل من خلال أدوات الدبلوماسية السرية والعمل الاستخباري- من بين أبرز الإشكاليات المتعلقة بقضايا الأمن القومي المصري.
وعندما ثارت مشكلة سد النهضة الذي شرعت إثيوبيا مؤخرا في العمل الجدي فيه، ظهرت العديد من الدراسات التي تتناول هذه الأزمة الجديدة التي تواجه مصر وأمنها القومي، وكان من أهم مضامين هذه الدراسات أن لإسرائيل ضلعا كبيرا فيما يجري من تطورات في حوض النيل.
وهذا الكتاب "إستراتيجية التغلغل الإسرائيلي في حوض النيل" -للباحث مهند النداوي، الصادر عن "العربي" للنشر والتوزيع- يتناول أبعاد هذه الرؤية الإسرائيلية التوسعية في منطقة حوض النيل ودولها، والأسس التي ترتكز عليها هذه الرؤية.
كما يتناول -في فصوله الثلاثة- تاريخ العلاقة بين إسرائيل ودول أفريقيا بشكل عام، ودول حوض النيل على وجه الخصوص، خلال العقود الماضية، وأهداف تلك العلاقة وأهميتها في تحقيق المصالح العليا للدولة العبرية، ومستقبل الإستراتيجية الإسرائيلية في منطقة حوض النيل.
والكتاب في الأصل عبارة عن الرسالة التي تقدم بها الباحث لنيل درجة الماجستير في العلوم السياسية، من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، ويبني الباحث الدراسة على فرضية أساسية، وهي أن الإستراتيجية الإسرائيلية تسعى لتحقيق هدفَيْن تجاه دول حوض النيل: الأول، تطويق واختراق الأمن القومي العربي. والثاني، اعتبار المنطقة مجالا حيويا للدولة العبرية.
تأصيل مفاهيمي
في الفصل الأول من الكتاب "مدخل للدراسة"، يؤصل الكاتب للإستراتيجية الإسرائيلية في منطقة حوض النيل، سياسيا وتاريخيا.
ويؤكد مجموعة من الحقائق الأولية فيما يتعلق بالإستراتيجية الإسرائيلية بشكل عام، قبل أن يطبقها على السياسات الإسرائيلية في منطقة حوض النيل، أهمها أن هذه الإستراتيجية تقوم على أساس فكر عدواني "صراعي" بالأساس.
ويتعامل هذا الفكر، وهذه الإستراتيجية مع المحيط الإقليمي بتخطيط بعيد المدى، وذلك من أجل تحقيق الغاية الصهيونية القائمة على عودة أرض إسرائيل إلى شعب إسرائيل في إطار ما أسماه الكاتب المفهوم التاريخي لأرض إسرائيل "من النيل إلى الفرات".
ويعود بخلفية تاريخية إلى الأصول الأولى لتلك الإستراتيجية، والتي بدأت مع المؤتمر الصهيوني الأول الذي عُقد في مدينة "بازل" السويسرية عام 1897، بهدف الإعداد لتأسيس وطن قومي لليهود، استُقرَّ على أن يكون في فلسطين، وهو ما تم لهم في غضون خمسة عقود، بالإعلان عن قيام دولة إسرائيل عام 1948.
أخطر إستراتيجية اتبعتها إسرائيل تجاه دول الحوض تنفيذها مشاريع مائية وزراعية عديدة في هذه الدول، حيث أصبحت تسيطر على عدد من القطاعات الاقتصادية المهمة في تلك الدول.
وبجانب هذا الهدف -الخاص بإقامة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات كما يزعمون -تبرز مجموعة أخرى من الغايات والأهداف في الإستراتيجية الإسرائيلية، قائمة على إدراك صناع القرار في إسرائيل بعض الحقائق المرتبطة بحوض النيل.
ومن بين هذه الأهداف: الهدف الأمني، الذي يدور حول حقيقة أن أمن إسرائيل يرتبط بديمومة فكرة الصراع، ومن هنا فإن الصراع مع الدول العربية يجب أن يبقى دائما.
والهدف السياسي، الذي يقوم على قاعدة أن القوة السياسية لا تقل أهمية عن القوة العسكرية، ومن ثَم فإن التحالف مع الدول الكبرى مسألة إستراتيجية من أجل الحصول على الشرعية الدولية.
وفي المقابل، العمل على إضعاف الدول العربية ومحاولة تجزئتها من خلال إقامة تعاون مع طائفة أو جماعة ما تعادي الوحدة القومية، ويعد هذا التعاون مسألة جوهرية في سياق الإستراتيجية الإسرائيلية الصراعية.
ثم يأتي بعد ذلك الهدف الاقتصادي والتقني، كمكمل ومحفز للهدفين الأمني والسياسي، حيث يرى الكاتب أنه لتحقيق إستراتيجية إسرائيل ببسط هيمنتها على المنطقة العربية، فإنها تعمل على إيجاد مقومات اقتصادية وتقنية تساعدها على توفير القوة والأمن، خاصة أن الحرب الدائمة على الأراضي العربية تكلف إسرائيل كثيرا مما جعلها تعتمد على الوسائل التقنية بشكل أكبر من أجل تحقيق أهداف فكرها الإستراتيجي التوسعي الصراعي.
نظرة تاريخية
أما الفصل الثاني "دول حوض النيل في المنظور الإستراتيجي الإسرائيلي"، فيقدم رؤية تطبيقية للتأصيل المفاهيمي السابق حول الإستراتيجية الإسرائيلية في الجوار الإقليمي والدولي.
فيقول الكاتب إن مؤتمر بازل قرر عام 1897 إقامة دولة لليهود، ولم تكن فلسطين وحدها هي الوجهة المطروحة لتجميع يهود العالم، ولكن حوض النيل كان في الصورة، حيث اختيرت الكونغو كأحد البدائل المتاحة لتجمع اليهود حول العالم، قبل أن يتم نقلهم إلى ما يُعرف في التوراة بـ"أرض الميعاد" في فلسطين.
ولذلك، يمكن الإشارة إلى أن اهتمام الفكر الصهيوني والحركة الصهيونية بدول حوض النيل ليس وليد اليوم أو العقود الماضية من الصراع العربي الإسرائيلي، من أجل تحقيق هدف محدد قريب المدى، ينقضي بانقضاء الفترة الزمنية الراهنة، إنما هو نتاج اهتمام دائم باعتباره أحد متطلبات الأمن القومي الإسرائيلي بأبعادها الثلاثة: الأمنية والسياسية والاقتصادية.
ومنذ الاعتراف بإسرائيل كدولة عام 1948، سعى آباء الدولة العبرية إلى إقامة علاقات مع عدد من الدول الأفريقية والآسيوية من أجل كسب أكبر عدد من الدول المحيطة بها.
وفي نهاية عقد الخمسينيات من القرن الماضي -وعقب العدوان الثلاثي على مصر- اتجهت إسرائيل إلى إقامة علاقات دبلوماسية مع عدد من دول حوض النيل، أهمها: كينيا، والكونغو الديمقراطية (زائير)، وأوغندا، وأثيوبيا، ورواندا.
ومن خلال ذلك، نجحت إسرائيل في الخروج من العزلة التي فرضتها عليها المقاطعة العربية، سياسيا واقتصاديا منذ مطلع الخمسينيات الماضية.
وركزت إسرائيل على جوانب شديدة الأهمية بالنسبة للدول الأفريقية، ومن بينها التعاون في الجانب الأمني الإستراتيجي، وكذلك في النواحي الإدارية والاقتصادية، ولا سيما النقل والمواصلات والدعم الفني في مجال بناء الدولة ومؤسساتها.
وفي نهاية عقد السبعينيات، توطدت علاقات إسرائيل الأفريقية، بما في ذلك دول حوض النيل، بعد توقيع مصر اتفاقية السلام مع إسرائيل، وبدأت إسرائيل باستغلال الصراعات القائمة في منطقة حوض النيل بين دوله المختلفة، من أجل التسلل إلى داخل تلك الدول عبر إفهام القادة الأفارقة بدول الحوض أن إسرائيل قادرة على حمايتهم وتوفير الأمن لهم ومن ثم الإبقاء عليهم في الحكم.
يرى المؤلف أن من معوقات الإستراتيجية الإسرائيلية في دول حوض النيل تحقيق الاستقرار الداخلي في دول الحوض، ودعم علاقات التعاون والاستقرار بينها من جهة، ومع الدول العربية من جهة ثانية.
" ويرى الكاتب أن أخطر إستراتيجية اتبعتها إسرائيل تجاه دول حوض النيل هو قيامها بتنفيذ مشاريع مائية وزراعية عديدة في دول الحوض، فأصبحت تسيطر على عدد من القطاعات الاقتصادية المهمة في تلك الدول، بالإضافة إلى أنها أصبحت بديلا قويا للوجود العربي -وخصوصا مصر- في تلك الدول.
ويعيب الباحث في هذا الإطار على مصر وصناع القرار الذين تعاقبوا على الحكومات المتتالية فيها منذ السبعينيات، من حيث إهمالهم العلاقات مع الدول الأفريقية غير العربية على مدى العقود الطويلة الماضية.
ويرى الباحث في هذا الإطار، أن المؤسسين الحقيقيين لدولة إسرائيل هم مهندسو وخبراء المياه، ويظهر ذلك جليا في شعار إسرائيل التاريخي في بيان حدود دولتهم التي وصفوها بأنها "من النيل إلى الفرات"، فارتبط المنظور الجغرافي لحدود دولتهم المزعومة بالمنظور المائي في دلالة رمزية لا تخفى على أحد من المحللين الموضوعيين.
كذلك يستعرض الكاتب بعض المشاريع التي دشنتها إسرائيل بهدف السيطرة علي مياه دول حوض النيل، ولعل أهمها مشروع سرقة واستغلال المياه الجوفية في شبه جزيرة سيناء في خمسينيات القرن الماضي، ثم محاولة نقل جزء من مياه نهر النيل، والتي ظهرت بوادرها في عدة مقالات إسرائيلية في الثمانينيات تدعو إلى شراء جزء من مياه النيل وتحويلها إلى النقب.
ويقول إنه في عام 1992 طرحت إسرائيل حوالي 23 مشروعا مائيا- بالتعاون مع الولايات المتحدة- من أجل نقل مياه نهر النيل إلى الشرق أي إلى سيناء، ومن ثم إلى إسرائيل، أو نقل مياه نهر الكونغو إلى إسرائيل، حيث قامت إسرائيل بالترويج لمشروع مجاني يعمل على نقل مياه نهر الكونغو إلى داخل إسرائيل من أجل معالجة العجز المائي داخلها.
مستقبل الإستراتيجية الإسرائيلية
ويتناول الفصل الثالث والأخير من الكتاب محفزات دعم وعوامل إعاقة هذه الإستراتيجية. فيؤكد المؤلف فيه أن اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية والنزاعات القائمة بين دول حوض النيل، والنفوذ الغربي في دول حوض النيل، هي أهم معالم دعم الإستراتيجية الأفريقية.
أما عوامل إعاقة الإستراتيجية الإسرائيلية في منطقة دول حوض النيل -التي يدعو الكاتب إلى تفعيلها- فيأتي في مقدمتها تحقيق الاستقرار الداخلي في دول حوض النيل، ودعم علاقات التعاون والاستقرار بين دول الحوض، وأخيرا دعم علاقات التعاون والاستقرار بين هذه الدول والدول العربية.
للإشتراك في قناة ( اليوم برس ) على التلغرام على الرابط
https://telegram.me/alyompress
اقرأ ايضا :
اضف تعليقك على الفيس بوك