لأول مرة منذ احتلال إسرائيل للضفة الغربية عام 1967، يعود مصطلح "التهجير" إلى الواجهة على نطاق واسع، حيث طاول أكثر من 40 ألف لاجئ من سكان مخيمات شمال الضفة الغربية حتى الآن، وجاء ذلك تزامناً مع عملية "السور الحديدي" التي بدأتها إسرائيل في 21 يناير/كانون الثاني الماضي، مما غذّى مخاوف الفلسطينيين من أن ما يجري هو إعادة هندسة جغرافية وسكانية وسياسية في الضفة الغربية عبر جعل المخيمات غير قابلة للحياة. أربعة مخيمات هي جنين ونور شمس وطولكرم والفارعة باتت شبه فارغة، بعد أن هُجّر منها آلاف اللاجئين إثر نسف الاحتلال وتدميره مئات المباني والبنى التحتية بشكل غير مسبوق، وقد تحولت شوارعها إلى خنادق وبيوتها إلى ركام، بينما لم تعد الأزقة، التي كانت من أهم معالم المخيمات، موجودة، هذا بالإضافة إلى استشهاد 49 فلسطينياً واعتقال نحو 200 منذ أن بدأت العملية الإسرائيلية في 21 يناير/ كانون الثاني.
الحملة على الضفة الغربية
ورأى خبراء ومحللون سياسيون فلسطينيون تحدثت معهم أن الحرب الإسرائيلية على اللاجئين الفلسطينيين قد بدأت بالفعل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وأن العملية الإسرائيلية الحالية هي عملية سياسية أكثر منها عسكرية أو أمنية. وقال الباحث في المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار) وليد حباس: "إن إسرائيل منذ السابع من أكتوبر 2023، تقول على لسان معظم قادتها، إنها تواجه حرباً متعددة الجبهات، أهمها قطاع غزة، ومنها الضفة الغربية، فيما شدد يسرائيل كاتس، الذي كان وزير خارجية الاحتلال في ذلك الحين ووزير أمن الاحتلال حالياً، قائلاً: (إننا نخوض حرباً كاملة في الضفة الغربية)". وأضاف حباس: "هناك تحول كبير جداً في إسرائيل بكل ما يتعلق بالمخيمات واللاجئين، لقد كانت هناك أصوات في الحرب تدعو إلى مراجعة مفادها بأن السلطة خلال 30 عاماً ورغم كل المال الذي حصلت عليه، لم تنه قضية اللاجئين ولم تفكك المخيمات، وبقيت قضية المخيمات موجودة، فيما كانت مشكلتها مع قطاع غزة لا تقتصر على حماس فقط، بل على اللاجئين، لأن الأغلبية العظمى من سكان غزة لاجئون". وأوضح حباس: "من هنا نفهم السلوك الإسرائيلي في الضفة الغربية، ومحاربة الأونروا، وتهجير سكان غزة، وتدمير المخيمات بشكل كامل".
أبرز الأهداف الإسرائيلية بحسب حباس، السعي لإنهاء عمل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى (أونروا) وإعادة توطين اللاجئين في أماكن أخرى، لأن "أونروا" تحتوي على ذاكرة جماعية وتحافظ على قضية اللاجئين، وكذلك تدمير المخيمات، وهذا لا يتعلق بوجود مجموعات مسلحة في هذه المخيمات، وإنما يتعلق بتدمير المخيم بوصفه مكانا للاجئين يحمل رمزية العودة. وتطرق حباس إلى سبب آخر وهو موضوع المناهج، الذي لا يقتصر على المنهاج المدرسي فقط، بل يشمل كل النقاش الموجود في الفضاء الثقافي والإعلامي والأكاديمي الفلسطيني حول وجود اللاجئين وحق العودة، مع سعي إسرائيل لشطبه وخلق وعي جديد.
ووفق بيان لـ"أونروا" نشرته على صفحتها في العاشر من الشهر الحالي "فإن العملية الإٍسرائيلية في المخيمات أدت إلى تشريد 40 ألف لاجئ فلسطيني، وقد أدت العمليات المتكررة والمدمرة إلى جعل مخيمات اللاجئين في الشمال غير صالحة للسكن، ما أدى إلى محاصرة السكان في نزوح دوري، وفي عام 2024، كان أكثر من 60% من عمليات التهجير نتيجة لعمليات القوات الإسرائيلية، في غياب أي أوامر قضائية".
وأكدت "أونروا" أن "التهجير القسري في الضفة الغربية المحتلة هو نتيجة لبيئة تزداد خطورة وإكراهاً، فقد أصبح استخدام القوات الإسرائيلية للضربات الجوية والجرافات المدرعة والتفجيرات المسيطر عليها والأسلحة المتطورة أمراً شائعاً، وهو امتداد للحرب في غزة. ولا تتماشى هذه الأساليب العسكرية مع سياق إنفاذ القانون في الضفة الغربية المحتلة، حيث وقعت 38 غارة جوية على الأقل في عام 2025 وحده". وأوضحت "أونروا" أن "مخيم جنين يبدو اليوم فارغاً، مستحضراً ذكريات الانتفاضة الثانية (2000 ـ 2005)، وأن هذا المشهد مرشح للتكرار في مخيمات أخرى بموجب قوانين الكنيست التي تم تنفيذها في 30 يناير الماضي، لم يعد لوكالة أونروا أي اتصال مع السلطات الإسرائيلية، ما يجعل من المستحيل إثارة المخاوف بشأن معاناة المدنيين أو الحاجة الملحة لإيصال المساعدات الإنسانية. وهذا يعرض حياة لاجئي فلسطين وموظفي الأونروا الذين يخدمونهم لخطر جسيم".
إعادة هندسة المخيمات
بات هناك قناعة تعززها آليات التدمير الإسرائيلية كل يوم، بأن الهدف هو إعادة هندسة مخيم طولكرم بحيث لا يصبح قابلاً للحياة في الدرجة الأولى، وثانياً إذا عاد جزء من اللاجئين إليه، فسيواجهون جغرافيا مختلفة عن تلك التي غادروها قبل التهجير، وهذا يختلف عن التدمير الجزئي للبنية التحتية والمنازل، التي كانت تقوم به إسرائيل في المخيمات في عملياتها المتلاحقة مثل"السور الواقي" عام 2002 أو خلال الأعوام الثلاثة الماضية من "كاسر الأمواج" إلى "البيت والحديقة"، و"المخيمات الصيفية"، وصولاً إلى "السور الحديدي" الحالية التي قامت بتهجير فعلي لآلاف اللاجئين وتدمير شبه كامل للمخيمات.
وذكر الناشط في اللجنة الشعبية بمخيم نور شمس، شرقي طولكرم، إبراهيم النمر، ، أن "قوات الاحتلال استخدمت جميع أنواع المعدات والآليات العسكرية، بهدف تغيير معالم المخيم وتخريب بنيته التحتية، عبر جرافات من طراز دي 9 وآليات أخرى، مثل النمر، والجرافات الصغيرة التي تعمل على توسيع الشوارع بالقوة وفرض واقع جديد في المخيم، وسط عمليات تدمير مستمرة ترافقها خزانات وقود لضمان عدم توقفها". كما أشار الخبير سليمان بشارات في حديث له ، إلى أنه "حتى الآن، فإن الصور الواضحة هي التي وصلت من مخيم جنين، لكن نفس الأمر يتم في مخيمات نور شمس وطولكرم والفارعة، حيث يقوم الاحتلال بهدم البيوت بشكل هندسي وشق طرق على مكانها، تقطع المخيم من بدايته حتى نهايته بأكثر من اتجاه". وأوضح بشارات أن "إسرائيل تنسخ ما قامت به في مخيمات قطاع غزة، لكن بشكل أقل دموية، مع الإبقاء على ذات الهدف التدميري من خلال دفع الناس للخروج من المخيم إلى الخارج، وتحويل المخيم إلى مكان غير قابل للحياة، وهذه واحدة من إعادة هندسة الإنسان، لأن المخيم هو هوية سياسية ورمزية للاجئ، وبالتالي تجريده من هذه الهوية". من جهته، كشف شامي الشامي، عضو المجلس التشريعي السابق عن حركة "فتح"، أحد سكان مخيم جنين، لـ"العربي الجديد" أن "الاحتلال نسف مربعات سكنية كاملة في مخيم جنين وجرفها، وفتح طرق واسعة فيه". وأضاف: "نحن نتحدث عن تغيير معالم المخيم بشكل كامل، وعن شوارع تم شقها على أنقاض المنازل، ولم يبق سوى تعبيدها لتشكل واقعاً جغرافياً جديداً في المخيم".
واعتمدت عملية "السور الحديدي" على عنصرين هامين: الأول هو صدور تعليمات خاصة من قيادة المنطقة الوسطى بالجيش الإسرائيلي بإطلاق النار على المواطنين الفلسطينيين، لأن القتل هو الخيار الأول وليس الاعتقال لكل إنسان يتحرك في المخيمات. أما العنصر الثاني فهو التعتيم الإعلامي الذي فرضه الاحتلال على المخيمات التي تتم فيها عملية التدمير، فلا تصل إلا صور وفيديوهات قليلة جداً، معظمها من كاميرات المراقبة للمنازل والمحلات التجارية التي تنبهت لها قوات الاحتلال وقامت بتدميرها بشكل ممنهج. وفيما عبّر أهالي المخيم ومحللون سياسيون عن تخوفهم مما ينتظر اللاجئين بعد تدمير مخيماتهم، وُجّهت انتقادات للقيادة الفلسطينية التي لم تقم بأي إجراء ضد ما يجري، ولو على صعيد عقد اجتماع للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي لم تعقد أي اجتماعات رسمية حتى ما قبل ما يونيو/ حزيران 2024، ولم تقم عبر كل الأطر التنظيمية لحركة فتح بالدعوة لأي مسيرات، مثل تلك التي نظمتها الحركة بذكرى انطلاقها أوائل الشهر الماضي، وشارك فيها المئات من أنصار الحركة من الموظفين في السلطة بينما كانت حملتها على مخيم جنين مستمرة.
لكن الكاتب محمد القيق رأى في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "السلطة الفلسطينية رفعت الغطاء الشرعي والوطني عن المخيمات من خلال حملتها الأمنية على مخيم جنين ومهاجمة بقية المخيمات، وما رافق ذلك من حملة إعلامية محلية ودولية، بأن هذه المخيمات تحتوي على مليشيات داعشية وإيرانية وخارجين عن القانون. وهي الكلمات التي يستخدمها جيش الاحتلال الآن في حربه على المخيمات، إلى جانب نشر السلطة أخباراً بشكل مستمر عن انتشار مهندسين متفجرات لتفكيك العبوات المتفجرة في هذه المخيمات". وأضاف القيق: "أن ما قامت به السلطة أوصلنا إلى نقطة خطيرة هي شرعنة ما يقوم به الإسرائيلي، أمس تم الاستفراد بقطاع غزة، واليوم هناك استفراد إٍسرائيلي بمخيمات شمال الضفة الغربية شرعنته السلطة بالأمس وسكتت عنه اليوم، لذلك ستكمل إٍسرائيل ما بدأته في بقية مدن وبلدات الضفة الغربية".
محمد القيق: هناك استفراد إٍسرائيلي بمخيمات شمال الضفة الغربية شرعنته السلطة
واعتبر القيق أن "ما قامت به السلطة في عمليتها التي استمرت 52 يوماً في مخيم جنين وملاحقة المقاومين في بقية المخيمات وقتل بعضهم كما في مخيمات طولكرم، ومنع الصحافيين من التغطية، أوصلنا إلى نقطة أنه لا صدى فلسطينياً للعملية الإسرائيلية الحالية التي تجري في شمال الضفة الغربية في باقي الضفة الغربية". وأشار القيق إلى أن "السلطة قررت أن هذه المخيمات غير صالحة لأنها خارجة عن القانون، وهذا خطير جداً، وحتى الآن لا يتم التعاطي مع هذه المخيمات وطنياً من قبل السلطة، حتى إعلامياً أو سياسياً". مع العلم أن آخر البيانات التي وزعها جيش الاحتلال في بلدة طمون، جنوبي طوباس، أخيراً أوضح أن "قوات الأمن الإٍسرائيلية تعمل في منطقتكم لاجتثاث المجرمين المسلحين، أذناب إيران أصحاب المصالح غير المحلية".
السلطة مهّدت الطريق للاحتلال
في السياق، اعتبر أحد قيادات مخيم جنين، جمال الزبيدي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "السلطة الفلسطينية، بعد حصارها للمخيم 52 يوماً حتى بدء عملية الاحتلال في 21 يناير الماضي، بدت وكأنها مهّدت الطريق أمام الاحتلال لتنفيذ عملياته التخريبية والتدميرية، بعد تعاملها مع المخيم وكأنه (بؤرة إيرانية وداعشية)، بحسب رواية الأمن الفلسطيني وبياناته ومؤتمراته الصحافية المتلاحقة". وأضاف الزبيدي: "المخيم ليس بؤرة لأحد، من تتم ملاحقتهم هم أبناء المخيم المقاومون والوطنيون الذين يتعرضون للاعتقالات المتكررة من الاحتلال، والذين نعرفهم ونعرف توجههم الفصائلي". وأضاف: "السلطة لا تزال مشاركة في العملية العسكرية ضد مخيم جنين بنفس قدر مشاركة الاحتلال، وما زالت حملة الاعتقالات مستمرة بحجة أن الشبان المقاومين خارجون عن القانون، في حين أنهم ليسوا كذلك، بل كانوا في وقت سابق أسرى في سجون الاحتلال، ما يعني أن هناك تنسيقاً مباشراً بين الأجهزة الأمنية والاحتلال الإسرائيلي". وتساءل الزبيدي: "لا أدري إلى أين تريد السلطة الوصول، وكأنها لا تتّعظ من سلوك الاحتلال، المعروف بعدم احترامه للسلطة، رغم ما تقدمه له".
وفُهَم من سلوك السلطة تجاه مخيم جنين أنها رفعت الغطاء عنه وتركته عرضة للاعتداءات الإسرائيلية، وفقاً للزبيدي، الذي شدّد على ضرورة وقف الهجمة الإسرائيلية بحق المخيم، من خلال وقفة وطنية فصائلية موحدة، لمواجهة مخططات الاحتلال الساعية إلى تهجير مخيمات شمال الضفة الغربية. وأشار إحصائيات مخيم جنين إلى أن عملية السلطة تسببت بمقتل عشرة مواطنين أحدهم من كتيبة جنين، علاوة على مقتل ستة من عناصر الأمن، وأحرقت السلطة 45 منزلاً وصادرت عشرات السيارات، وقطعت الكهرباء والماء والاتصالات عن المخيم، واعتقلت نحو 400 مواطن، وما زالت تقوم باعتقالات في صفوف أهالي المخيم المهجرين إلى القرى والبلدات المحيطة بالمخيم باستخدام سيارات مدنية.
للإشتراك في قناة ( اليوم برس ) على التلغرام على الرابط
https://telegram.me/alyompress
اقرأ ايضا :
اضف تعليقك على الفيس بوك