في المدن اليمنية صراع من نوع آخر. لا يمثل أي أولوية حكومية أو صحافية حتى داخل اليمن ذاتها. في عديد من الأحياء الضيقة للعاصمة اليمنية صنعاء، تتشاجر بضع نساء ليحصلن على مقدمة صفوف طويلة لفقيرات يحملن أمامهن الصفائح البلاستيكية الصفراء، أملاً في تعبئتها من شاحنة المياه التي يتصدق بها محسنون.
تفرض شحة المياه تداعيات هامة، حيث تدير المياه حرب استنزاف طويلة يكتوي بنارها السكان.
أقرت منظمة الأمم المتحدة وجود 13.4 مليون شخص (يمثلون نصف إجمالي عدد السكان) يموتون عطشاً، حيث لا يمكنهم الحصول على المياه الآمنة للشرب أو النظافة. ويمثل هذا الرقم ما نسبته 79% من إجمالي عدد اليمنيين المحتاجين لمساعدات إنسانية في قطاعات الحياة المختلفة.
أوضحت دراسة قام بها البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة في العام 2014، أن 70% من الصراعات الداخلية في اليمن تقوم بسبب النزاعات على المياه، كما أكدت دراسة سابقة لوزارة الداخلية اليمنية أن ضحايا هذه النزاعات يبلغون معدل 4.000 شخص سنوياً. قبل سنوات. وقدّر البنك الدولي المياه المتجددة في اليمن بحوالي 2.5 مليار متر مكعب سنوياً، بينما قدر الاستهلاك بما نسبته 3.4 مليارات متر مكعب، أي أن العجز المائي السنوي وصل إلى 900 مليون متر مكعب، وهذا يجعل تعويض نقص الآبار تتناقص بشكل مهول، إذ تتناقص مستوياتها من متر إلى 7 أمتار سنوياً.
في العاصمة صنعاء، يعاني سكانها ذو المليوني نسمة من شحة شديدة للمياه، وزاد من تفاقمها المستمر الضغط السكاني المتزايد، وسوء إدارة الموارد المائية من قبل الحكومة والمجتمع. وفقاً لرئيس الهيئة الموارد المائية علي الصريمي، فإن الحكومة تُشرف على 125 بئر مياه في حوض صنعاء. وأصبح الشغل الشاغل للحكومة والمجتمع من أجل الحصول على المياه، هو كيفية الحفر وتعميق الآبار من أجل الوصول إلى المياه الجوفية المهددة بالنضوب، بدلاً عن البحث عن سبل جمع مياه الأمطار التي تذهب جفاءً صوب صحراء الربع الخالي. وقد كثرت الانتهاكات في حق الناس في المياه حتى فشلت مشاريع التحكم في إدارة المياه أو حتى في الحصول على أرقام عن كمية المياه الباقية في جوف الأرض. وأشارت تقديرات الكثير من الخبراء بنضوب المياه من الأحواض الجوفية للعاصمة اليمنية صنعاء خلال عقد، بحسب تقرير للجنة الدولية للصليب الأحمر.
أكد التقرير الوطني الأول لرصد الحماية الاجتماعية في اليمن، الذي أعدته منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسف" أن 28% من الأسر اليمنية تتمتع بوجود شبكة التزويد بالمياه التي تديرها الحكومة. ويتمتع 40% من منازل العاصمة صنعاء بارتباطها بتلك الشبكات، غير أنها تكون محظوظة لو وصلت المياه إلى صنابيرها مرة أسبوعياً، بالرغم من أن تلك المياه ليست بالضرورة مياها صالحة للشرب.
وتعتبر شبكة المياه في العاصمة شبكة قديمة مهترئة تسرب ما نسبته 60% من المياه التي يتم ضخها للسكان، بحسب تقديرات المؤسسة المحلية للمياه التي تدير خدمة المياه والصرف الصحي في المدينة، غير أن وضع السكان في المدينة الصناعية تعز، وسط اليمن، أكثر سوءاً حيث تصل المياه إلى الصنابير مرة كل شهر. ورغم أن الضخ إلى شبكة المياه قد بدأ يقل في صنعاء، إلا أنه لا يزال أرخص بكثير من المياه المشتراة على شاحنات المياه التي يشتريها الكثير ممن فقدوا الأمل من الحصول على مياه الشبكة.
في مدينة صنعاء، ينتشر سلوك حكومي ومجتمعي عام يشجع على تصريف مياه الأمطار إلى خارج المدينة واستنزاف مياهها الجوفية بسرعة. عمل البنك الدولي والحكومة اليمنية على مدى السنوات الماضية على بناء مشروع خاص بالحفاظ على تطوير حوض مياه صنعاء الواقع شمال غرب المدينة، كونه أكبر أحواض صنعاء وأكبرها أملاً في دعم المدينة بالمياه. لكن في النهاية، فشل المشروع بفشل الحكومة في السيطرة على الاستحداثات الإنشائية بسبب وصول المد السكاني إلى المنطقة، بالإضافة إلى التلوثات البيئية التي سببها المد السكاني، والتي عملت جميعها على فشل تطوير الحوض وتلويثه وزيادة استنزافه. ورغم ذلك، يقول مختص المياه في مشروع الأشغال العامة المهندس عبد الولي الشامي إن الحكومة لا تزال تعتمد على حفر آبار المياه لتجد الحفارات تعمل وسط الشارع أو المعسكر أو الحديقة من أجل استخراج المياه للأهالي، مع سياسة متوسعة في رصف الشوارع والأحياء ومجاري المياه بالإسفلت أو الأحجار، ومنع نفاذية مياه الأمطار إلى جوف الأرض لتذهب أغلب كميات المياه نحو صحراء الجوف أقصى شمال اليمن.
يقول رئيس وحدة المياه والصرف الصحي في الصندوق الاجتماعي للتنمية عبد الوهاب المجاهد لـ "العربي الجديد": إن أحد أهم أسباب استنزاف مياه صنعاء، هو دخول سكان المدينة تيار العصرنة والحداثة غير العابئة بأساليب الغرب أو الشرق في الاستفادة من المياه العادمة. "تعد أداة دفع المياه لتنظيف مراحيض الحمامات "السيفون"، وأنابيب تصريف مياه المطابخ أحد أسباب الأزمة الاستهلاكية؛ لأنه يتطلب الكثير من المياه في مدينة تشكو من الجفاف.
حلول عاجلة
قبل عامين، قامت المؤسسة العامة لمياه الريف بتنفيذ مسح عام على مشاريع المياه القائمة، واتفقت تلك المشاريع على ضرورة التركيز على تجميع مياه الأمطار، عبر بناء عدة حفر كبيرة جوار مجاري الأمطار لتخزين المياه وتسريبها للآبار الجوفية، وإنشاء خزانات أخرى لتجميع المياه الساقطة على سقوف المباني الكبيرة.
لكن المشكلة الأهم تكمن في الاضطراب السياسي الراهن الذي أوقف تمويلات وتنفيذ تلك التوصيات، كما صرح المهندس عبد الولي الشامي مسؤول المياه لدى مشروع الأشغال العامة لـ "العربي الجديد". وقال إن الأمر لم يكن في أولويات وزارة التخطيط التي قامت في منتصف عام 2014 بتأجيل تنفيذ هذه المشاريع، وهو ما لا يشجع المنظمات الإنسانية الدولية العمل بمفردها في هذا المجال في الوقت الراهن. ويرى وزير المياه والبيئة السابق عبد الرحمن الأرياني أن توفير المياه للمواطنين يعتبر من الأولويات المنقذة للأرواح، وأن ما هو في المتناول عمله وسط غياب التمويل حالياً هو منع استيراد، وتشغيل حفارات المياه التي بلغ عددها في البلاد 900 والتي تعادل 14 ضعفاً عما تمتلكه الهند ذات المليار نسمة.
للإشتراك في قناة ( اليوم برس ) على التلغرام على الرابط
https://telegram.me/alyompress
اقرأ ايضا :
اضف تعليقك على الفيس بوك