قلقة هي الرياض، حق لها القلق، واشنطن تتجه نحو طهران، باريس ترسل جيشاً من رجال الأعمال إلى الجارة اللدود، لندن وطهران تبادلتا الغزل باكراً، ظريف يوزع بسماته الغامضة في جنيف وفيينا، الحدود الشمالية للرياض ملتهبة، البوابة الشرقية تهدم مصراعها، أدركت الرياض لاحقاً أنها ارتكبت خطأ في بغداد، ذات يوم من عام 2003، لكن ليس هذا وقت الندم على الأخطاء، هذا وقت معالجتها، تقول الرياض لنفسها.
خلايا العمامة السوداء – النائمة والقائمة – موجودة على ساحل الخليج العربي، الخاصرة الجنوبية من جهة اليمن ينغرس فيها سكين طهران، الحوثيون ‘حزب الله’ جديد على الحدود الجنوبية للرياض، وطهران تشن هجوماً بالبسمات على الدوحة والكويت وأبوظبي، مسقط أعجبها منذ وقت مبكر – بريق ‘نيوب الليث الإيراني’.
الرياض الهادئة في ما يبدو تعمل بهدوء أقل، وحركة أسرع. رسائلها إلى عمَّان والرباط غير كافية، حركتها في النادي العربي الخليجي، لا تلبي الحاجة، الأوراق التي بعثرتها موسكو في سوريا يصعب لملمتها، لبنان حلم الرياض الجميل حولته طهران إلى كابوس عربي بامتياز، سيد الضاحية ووكيل طهران يبعث ‘كتائب الحسين’ إلى عاصمة الأمويين، وتصرخ الكتائب ‘يا لثارات الحسين’، وتزيد من شعاراتها الطائفية: ‘لبيك يا حسين’، حال هجومها على ‘يزيد’ في ساحة الأمويين في دمشق.
طهران على حدود الرياض من الشرق والشمال والجنوب، أمرٌ مربك، ولا بد من حركة سريعة ورشيقة – ترى الرياض – لفك الحصار الحريري أو الحديدي الذي حاكه شيطان طهران أو وليها، سيان في عين الرياض، فبعض الأولياء شياطين حقيقيون.
هو الشرق إذن. قررت الرياض، لكن ماذا عن واشنطن؟ ماذا عن التحالف الاستراتيجي، وثوابت السياسة الخارجية للرياض؟ ماذا عن اتفاق الراحلين روزفلت وعبدالعزيز؟ ذهبت الرياض إلى أقصى الشرق، بعد تقارب شيطان واشنطن وولي طهران، دخل الأمير العربي السعودي الكرملين، قابل القيصر، حاول معه، لكن الوقت تأخر في نظر القيصر، للقيصر حسابات أخرى في طهران ودمشق، وعينه على مياه المتوسط، وسواحل الشام وآسيا الوسطى. الوقت ينفد والرياض في سباق مع الزمن، لا فائدة من إضاعة الوقت مع الدب الروسي، ثقيل دم هذا الدب، غليظ المزاج، مثل سيجار ‘لافروف’، وكئيب الطلة مثل وجه بوتين الجامد.
جربت الرياض الذهاب إلى أنقرة، لكن حسابات التاريخ والجغرافيا لم تسعفها، أردوغان ضد جنرال القاهرة، والرياض تدعمه، وصقر الأناضول يميل إلى الدوحة، وثوبه إسلامي لا يروق للرياض، ولا يكفي ـ بالطبع – التناغم في سوريا لإقامة تحالف مع العثمانية الجديدة، وحتى ذلك التحالف بدأ بالتباين في تشكيلات المعارضة السورية والجيش الحر. أما عن القاهرة، فالقاهرة لن تسعف حالياً، هي على سرير المرض، وتحتاج إلى عناية أكبر، جراحها عميقة، وصداعها مؤلم، القاهرة تشعر بدوار البحر، إثر الاضطرابات اليومية والاختلالات الأمنية.
هو الشرق إذن. قررت الرياض، لكن إلى الهند وباكستان واليابان. الرياض وإسلام أباد جناحان سنيان عملاقان، وبما أن العمامة السوداء تلعب في الحدائق الملتهبة للرياض، فلتذهب الرياض إلى أقرب نقطة ممكنة من حدود حائك السجاد، إسلام أباد هي المحطة المناسبة، رأت الرياض، إسلام أباد والرياض في حلف قديم تقوى أيام الراحل ضياء الحق. النووي الباكستاني فيه نكهة سعودية، ربما كان عصبه نفط الصحراء العربية، وربما خبأه السعوديون هناك باسم مستعار، وربما كان بضاعة مشتركة بين إسلام اباد والرياض. قالت الرياض يوماً إن طهران لو حصلت على القنبلة الرهيبة، فإن الرياض ستحصل عليها، سربت الرياض رسائلها إلى حلفائها الغربيين، وإلى واشنطن بالذات، وها هي الرياض تذهب إلى إسلام اباد، وتوقع على اتفاقيات إنتاج دفاعي مشترك، يقول الخبثاء إن التوقيع عليها الذي تم الاثنين كان صورياً، لأن الاتفاق ـ أصلاً – قديم من أيام ضياء الحق، والباكستانيون يعرفونالسعودية، والرياض تألف إسلام أباد السنية التي لا تشبه أنقرة السنية أيضاً، بل ولا تشبه القاهرة العربية السنية كذلك. إسلام اباد على حدود ولي طهران، وهو ما تريده الرياض، إسلام اباد حليف قديم من أيام السوفييت، ولعل ذلك ما جعل الدب الروسي لا يتحمس لرسائل الرياض إلى الكرملين، لا ينسى الكرملين الإهانة في كابل، التي كانت الرياض وإسلام أباد سببين ضمن أسبابها، وإسلام أباد بعيدة عن الرياض، والرياض تثق بإسلام أباد التي تحترم ‘مكة’، ولا تنافسها بـ’قم’.
فلتعد الرياض ـ إذن – إلى حليفتها القديمة، لكن ‘موسكو، والمد الشيوعي’ ليس الهدف هذه المرة، الهدف ‘طهران، والهلال الشيعي’، والهدف بعث رسائل عتاب ساخنة، أو لنقل رسائل غضب صامت إلى واشنطن، لغدرها، والتفافها بالقرب من مضيق هرمز في اتفاق سري، بعيداً عن أعين الرياض، وتحت سقف ‘السلطان الهادئ’ الذي طار يوماً وقابل ولي طهران لبحث ‘سبل تطوير العلاقات الثنائية بين البلدين (أمريكا وإيران)’.
وتواصل الرياض الإيغال شرقاً، قبل أن تعرج على نيودلهي لمجرد ذر الرماد في عيونها، وعدم إثارة شكوكها، حول زيارة الأمير لإسلام أباد، قال أحد الخبثاء وهو يرتشف قهوته، في أحد مقاهي لندن. وصلت الطائرة إلى طوكيو، لأغراض ربما لها علاقة بإسلام أباد، أو بالرياض، أو بكليهما، وربما كانت الزيارة لغرض التمويه كذلك على الهدف الرئيس في إحياء الحلف السني المطلوب لمواجهة سطوع الهلال الشيعي الذي لا يقلق الرياض وحدها، بل يقلق القاهرة وعمَّان وصنعاء وعواصم الخليج وبعض دول المغرب العربي.
الرياض غالباً هادئة المزاج، وبطيئة التغير، لكن السنوات والشهور الأخيرة، جعلت المراقب يلهث وراء غبار رحلاتها من دون أن يفوز بما يريد من تحليله ذرات ذلك الغبار. خيبة أمل كبيرة تبدو لدى الرياض من تصرفات حلفائها الغربيين. على الرغم من محاولات باريس إعطاء شيء من التطمينات، إلا أن الرياض في ما يبدو بلغ بها الغضب الصامت حد الانفجار الذي لم يعد بالإمكان كتمانه، وفقاً للقواعد الكلاسيكية للسياسة الخارجية السعودية. لكن الرياض وهي تتجه شرقاً عليها ألا تنس النار الملتهبة في أطراف ثوبها في الشرق والجنوب والشمال، معلوم أن هذه الحرائق في أطراف ‘الثوب’ هي التي جعلت الرياض ـ ضمن أسباب أخرى – تذهب بعيداً، غير أن الإيغال في البعد يجعل العودة متأخرة، والنظر إلى البعيد الأقصى، يجعل رؤية القريب الأدنى أكثر صعوبة، والاهتمام بإطفاء الحريق السوري لا ينبغي أن يكون على حساب الجهود المطلوبة لمكافحة حرائق الحدود الشرقية والجنوبية.
حائك السجاد ‘شيطان’ الفعل ‘ولي’ القول، يغطي على وجهته بالتمويه، ويخفي نواياه بابتسامته، ويشغل العرب عن عمله الدؤوب في تمزيقهم بشعاراته الزائفة عن الوحدة الإسلامية. وبعد تقارب الشيطان الأكبر والولي الفقيه، وبعد مكالمة أوباما وروحاني، وتبادل البسمات والمجاملات بين ظريف وكيري، وبعد الخروج على مألوف السياستين الخارجيتين للبلدين، بدأت طهران توجه رسائل غزل للرياض، الولي الفقيه يريد أن يرضي الرياض، ويخفف من وقع المرارة لديها، لعلمه أن الرياض يمكن أن تلعب لو شاءت في حدائقه، كما يلعب هو في حدائقها، غير أن رسائل طهران في ما يبدو لم تصل بعد إلى الرياض، او أنها لا تزال صعبة الفهم فيها، الرياض تدرك أنها الهدف الإيراني الأكبر، الحوثيون في اليمن لإقلاق الخاصرة الجنوبية، والمالكي والمليشيات الشيعية في العراق جزء من استراتيجية الهلال الشيعي، والحرب السورية هي في جانب منها حرب على الرياض، والعرب عموماً، أو على الأقل، هذه هي قراءة الرياض لإضبارة الملف السوري.
وفوق ذلك، تدرك الرياض أن طهران اليوم ربما تنال إحدى الحسنيين، أو كليهما، إما القنبلة النووية، ولو بعد حين، أو الانتعاش والمنافسة الاقتصادية العاجلة، وكلا الأمرين بالطبع غير جيد للرياض الشريك النفطي العالمي الأول في المنطقة، وصاحبة الزعامة ـ حسب قراءتها للعالم الإسلامي.
ربما أحسنت الرياض بتوجهها شرقاً، لكن من المهم جداً أن تتجه الرياض جنوباً وشمالاً وشرقاً حدودياً، بل والأهم من ذلك أن تتجه الرياض أكثر للداخل، أعني داخل حدودها، لملفات وطنية حساسة، واستحقاقات شعبية ضرورية، إذ الشعب هو السلاح الأقوى، والجبهة الداخلية هي القوة الحقيقية التي بدونها لا تجدي اتفاقيات مع الخارج أياً كان هذا الخارج، واياً كانت هذه الاتفاقيات.
محركات الطائرات الخاصة التي تطير من الرياض، وحركة الطيران تشي بتشكل مسارات جديدة في حركة الطيران، التي يمكن قراءتها على أنها انعكاس لمسارات جديدة في هامش، أو ربما في صلب المقاربات السعودية لملفات المنطقة والعالم.
كل شيء قابل للتكهن، وكل حركة في المنطقة هي نص مغلق على دلالات واسعة، وأحياناً متضاربة، غير أن ما يمكن أن يعد نصاً مفتوحاً على دلالات قطعية، هو حركة الطائرة التي نقلت ولي العهد السعودي الأمير سلمان بن عبدالعزيز من الرياض إلى الشرق الأدنى والأقصى، حيث لا يمكن قراءة الحدث بمعزل عن السياقات في واشنطن وطهران، وبمعزل عما يدور في فيينا وجنيف.
ما ليس بتكهن هو حقيقة أن الرياض تتغير بسرعة أكبر مما توقعت واشنطن وطهران، ولعل أوباما الذي أغضب الرياض يدرك ذلك، ولعل ذلك سبب الزيارة المزمعة لباراك ‘حسين’ أوباما إلى الرياض، وهذا تغير في الاتجاه التقليدي لقبلة الحج بين الرياض وواشنطن على الأقل خلال هذه المرحلة القلقة من علاقات هذين الحليفين الاستراتيجيين.
للإشتراك في قناة ( اليوم برس ) على التلغرام على الرابط
https://telegram.me/alyompress
اقرأ ايضا :
اضف تعليقك على الفيس بوك