ترمب يُجمّد ملف «توماهوك» في انتظار نتائج «بودابست»

لم تستغرق مكالمة هاتفية بين الرئيسَين الأميركي دونالد ترمب والروسي فلاديمير بوتين أكثر من ساعتَين لتُبدّل المسار الذي كانت تتجه إليه السياسة الأميركية حيال الحرب في أوكرانيا. فبعد أيام من تلميح مسؤولين بارزين في الإدارة إلى استعداد واشنطن لتزويد كييف بصواريخ «توماهوك» بعيدة المدى، وإعداد حزمة جديدة من العقوبات الاقتصادية ضد موسكو، خرج ترمب ليعلن قمة جديدة مع بوتين في بودابست، متحدثاً عن «اقتراب السلام».
هذا التحول المفاجئ في مواقف البيت الأبيض ليس الأول من نوعه منذ عودة ترمب إلى الحكم، لكنه جاء في لحظة حساسة في مسار الحرب، مع إعادة حلف شمال الأطلسي (الناتو) ترتيب أولوياته العسكرية على وقع الجمود في جبهات دونيتسك وخاركيف.
«دبلوماسية الإرجاء»
قبل اتصال بوتين، ظهرت مؤشرات قوية على ميل إدارة ترمب إلى رفع مستوى الضغط العسكري والاقتصادي على موسكو. فقد ناقش مجلس الأمن القومي الأميركي تقارير حول جدوى تزويد أوكرانيا بصواريخ «توماهوك»، وهو ما كان سيمنح كييف قدرة على ضرب العمق الروسي. كما بدأت «الخارجية الأميركية» إعداد مسودة عقوبات جديدة تستهدف مشتري الطاقة الروسية ومؤسسات مالية مرتبطة بالكرملين، استناداً إلى مشروع يتوقع أن يتم التصويت عليه الأسبوع المقبل في مجلس الشيوخ.
لكن تلك التوجهات انقلبت رأساً على عقب بعد مكالمة يوم الخميس؛ إذ خرج ترمب في اليوم التالي ليقول، خلال لقائه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض: «نأمل أن نتمكن من إنهاء الحرب من دون تفكير في صواريخ (توماهوك)». وبدلاً من عقوبات جديدة، أعلن قمة مرتقبة مع بوتين، مُكرّساً ما بات يُوصف في واشنطن بـ«دبلوماسية الإرجاء»، أي تأجيل القرارات الصلبة على أمل إحراز تقدم تفاوضي. وهو نهج ينتقده خصوم ترمب الذين يرون أنه يمنح موسكو متسعاً إضافياً للمناورة الميدانية والدبلوماسية.
بوتين قلب الموازين
يُجمع مراقبون في واشنطن وبروكسل على أن بوتين نجح في استعادة زمام التواصل الشخصي مع ترمب، بعد فترة من الفتور أعقبت «قمة ألاسكا» في أغسطس (آب) الماضي.
فالمكالمة الأخيرة لم تكن مجرد تواصل بروتوكولي، بل عملية إقناع كاملة. ونقلت صحف أميركية عدة عن مصادر أن بوتين حذّر نظيره الأميركي من أن إرسال صواريخ بعيدة المدى إلى كييف «سيقضي على أي فرصة للتسوية»، لافتاً إلى أن السلاح الجديد «لن يغير شيئاً في الميدان سوى زيادة التوتر».
من جانبه، أبدى ترمب استعداداً للاستماع، مكرراً لاحقاً عبارته المألوفة: «لقد تم التلاعب بي طوال حياتي، لكنني خرجت رابحاً في النهاية». هذه الجملة التي اعتاد تكرارها في الأزمات السابقة، باتت تعكس مقاربة تقوم على «الثقة الممزوجة بالشك» تجاه بوتين، لكنها في النهاية تنتهي غالباً بتنازلات أو خطوات رمزية أكثر من كونها حاسمة.
كييف تخسر ورقة «توماهوك»
من ناحيته، فقد بدا الرئيس زيلينسكي محبطاً بعد لقائه ترمب في البيت الأبيض. فكل ما بناه على مدار أسابيع من ضغط دبلوماسي وإعلامي لإقناع واشنطن بضرورة تسليح بلاده بصواريخ بعيدة المدى، تهاوى في ساعات قليلة.
وكان فريقه قد أعدّ خطة متكاملة للتعاون مع شركة «رايثيون» المصنّعة للصواريخ، ونسّق مع البنتاغون بشأن آليات النقل والتخزين. لكن قرار ترمب بتجميد الصفقة جعل أوكرانيا تدخل مجدداً في دوامة انتظار ما ستُسفر عنه «قمة بودابست» المقبلة بين ترمب وبوتين، وانتظار أي إشارة إلى إمكانية استئناف الدعم العسكري الأميركي على نطاق أوسع.
هذا التراجع الأميركي ترك أثراً مباشراً على موقع كييف التفاوضي. فبينما كانت تستعد لفرض واقع جديد على الأرض عبر القدرة على ضرب أهداف استراتيجية في روسيا، وجدت نفسها الآن مضطرة إلى التمسك بخيار «وقف النار على خطوط التماس الحالية»، وهو المقترح الذي طرحه ترمب علناً ودعمه زيلينسكي «بوصفه نقطة انطلاق لمحادثات أوسع». لكنه عملياً يكرّس سيطرة روسيا على مساحات واسعة من الشرق والجنوب الأوكراني.
«الناتو» أمام اختبار القيادة
قرار ترمب بالتراجع عن تسليح أوكرانيا بصواريخ «توماهوك» لم يُحدث صدمة في كييف وحدها، بل هزّ أروقة حلف شمال الأطلسي. فبينما كان الحلف يستعدّ لإطلاق برنامج دعم جديد لأوكرانيا بتمويل أوروبي، جاء الموقف الأميركي ليبعث برسالة مقلقة للحلفاء، مفادها أن واشنطن ما زالت تتعامل مع الحرب الأوكرانية بوصفها ملفاً قابلاً للمساومة، وليس بوصفها معركة مصيرية لمستقبل الأمن الأوروبي.
وعبّر دبلوماسيون عن خشيتهم من أن يتحوّل «السلام عبر الصفقة» إلى عنوان السياسة الأميركية المقبلة، على حساب سياسة الردع التي تبناها الحلف منذ بداية الحرب في فبراير (شباط) 2022. بعض العواصم، خصوصاً وارسو وفيلنيوس، ترى أن موسكو تفسّر كل تراجع غربي بوصفه دليلاً على ضعف الإرادة، مما يشجعها على مواصلة الضغط العسكري في الشرق الأوكراني، وربما ما بعده.
«قمة بودابست»: فرصة أم فخ؟
يستعد ترمب وبوتين لثاني لقاء بينهما، في بودابست هذه المرة، برعاية رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، أحد أبرز حلفاء موسكو في الاتحاد الأوروبي. ويتحدّث الكرملين عن «صيغة عمل جديدة للبحث عن حل سلمي»، فيما تصفها دوائر أميركية بأنها محاولة لإحياء «المسار الشخصي» بين الزعيمَين بعد إخفاق «قمة ألاسكا».
لكن التوقعات متباينة، فأنصار ترمب يرون في الاجتماع فرصة لفرض «تسوية مرنة» توقف القتال، وتفتح باباً للتهدئة مع روسيا، فيما يرى خصومه أنه يمنح بوتين مزيداً من الوقت لإعادة التموضع وتعزيز مكاسبه الميدانية. ويشير محللون إلى أن الرئيس الروسي يجيد استغلال اندفاع ترمب نحو «صفقة كبرى» ليكسب هدنة على الأرض، دون تقديم تنازلات جوهرية.
جمود مكلف
على الأرض، تبدو الحرب في حالة جمود مُكلف. فالقوات الروسية لم تنجح بعد في السيطرة على مدينة بكروفسك الاستراتيجية في غرب دونيتسك، رغم المعارك المستمرة منذ الصيف، فيما تكبّدت خسائر بشرية ضخمة. في المقابل، حققت أوكرانيا تقدماً محدوداً في الجنوب واستعادت بعض المواقع في جبهة خيرسون، لكنها تواجه شتاءً قاسياً مع انهيار شبكات الطاقة تحت ضربات الصواريخ الروسية.
اقتصادياً، تُقدَّر نفقات الحرب الروسية بأكثر من 40 في المائة من موازنة الدولة، فيما تتراجع العائدات النفطية وسط العقوبات الأوروبية. إلا أن ذلك لم يبدّل حسابات الكرملين الذي يرى أن الزمن يعمل لصالحه ما دامت الجبهات ثابتة، والإرادة الغربية مترددة.
أما في الداخل الروسي فمؤشرات التعب الشعبي بدأت بالظهور، مع استهداف الطائرات المسيّرة الأوكرانية منشآت النفط والغاز داخل روسيا، ما أدى إلى تعطيل قرابة 20 في المائة من قدرات التكرير، ورفع أسعار الوقود داخل السوق الروسية.
من الجانب الأوروبي، يتحرّك الاتحاد لتعويض الفراغ الأميركي جزئياً. ويدرس مشروع قرض بقيمة 160 مليار دولار لتأمين تمويل طويل الأمد لأوكرانيا عبر أصول روسية مجمّدة. كما تدرس برلين وباريس خيارات بديلة لتزويد كييف بصواريخ «توروس» الألمانية، في حال استمرار التردد الأميركي.
لكن القارة العجوز تُدرك أن أي اختلال في الموقف الأميركي سيضعف وحدتها السياسية. فالدعم الأوروبي، مهما بلغ حجمه، لا يستطيع أن يحلّ محل المظلة الاستراتيجية الأميركية التي تشكل العمود الفقري لردع روسيا. لذلك يُنظر إلى «قمة بودابست» المقبلة بوصفها اختباراً مزدوجاً؛ لترمب الذي يسعى إلى إنهاء ما يسميه «الحرب التاسعة»، وللحلفاء الذين يخشون أن تكون نهاية الحرب بداية لتفكك الردع الغربي.
سيناريوهات ما بعد «بودابست»
أمام هذه التطورات، تُطرح ثلاثة احتمالات رئيسية لمسار الحرب خلال الأشهر المقبلة.
الأول، تسوية مجمدة، بحيث يتوصل ترمب وبوتين إلى اتفاق يكرّس وقف إطلاق النار على خطوط التماس الحالية، مما يعني تجميد الصراع دون حل جذري. هذا السيناريو يمنح ترمب إنجازاً دبلوماسياً مؤقتاً، لكنه يبقي أوكرانيا في حالة «نصف سلام» مهدد بالانفجار في أي لحظة.
السيناريو الثاني، «تصعيد متأخر» في حالة فشل «قمة بودابست»؛ إذ قد يضطر ترمب تحت ضغط الكونغرس والبنتاغون إلى العودة لخيار العقوبات والتسليح، خصوصاً مع تصاعد الانتقادات من داخل حزبه.
أما الاحتمال الثالث، والأضعف، فهو صفقة شاملة؛ إذ يتنازل بوتين جزئياً عن بعض مطالبه الإقليمية، مقابل اعتراف ضمني بوضعه القائم في الشرق، في إطار اتفاق أوسع يشمل تفاهمات حول العقوبات والطاقة وأمن أوروبا الشرقية.
مرة أخرى، يجد العالم نفسه أمام مشهد مألوف؛ بوتين يمسك بخيوط اللعبة عبر الدبلوماسية، وترمب يسعى إلى تسجيل انتصار شخصي في ملف بالغ التعقيد، فيما تُترك أوكرانيا وحلفاؤها أمام معادلة صعبة بين الصبر والتراجع.
وما بدأ بوصفه محاولة للضغط على روسيا يتحول مجدداً إلى مسار من التسويات الغامضة، فيما الحرب التي أراد ترمب إنهاءها بوصفها «التاسعة والأخيرة»، تبدو اليوم أقرب إلى أن تكون الحرب التي ستختبر حدود زعامته، وقدرة الغرب على الدفاع عن منظومته الأمنية.
للإشتراك في قناة ( اليوم برس ) على التلغرام على الرابط
https://telegram.me/alyompress