منذ اللحظات الأولى، بدت الحرب الدائرة منذ نحو عامين في اليمن واضحة في طبيعتها، باعتبارها حربا بين شرعية وانقلاب، رغم الدوافع والأبعاد المذهبية وحالة الشحن الطائفي والشعارات المرفوعة، من قبل الحوثيين ظاهرا وجماعة الرئيس المخلوع صالح سرا، في تجنيدهم للمقاتلين والأتباع بدوافع مناطقية مذهبية وطائفية صرفة.
ومثل السياق السياسي البحت للحرب (بين شرعية وانقلاب) واحدا من أهم تجليات الوعي الوطني الذي كرسته وأسست له ثورة الـ 26 سبتمبر/أيلول 1962. فما يجري اليوم من حروب في اليمن هي حروب ليست مقطوعة الصلة عن جذورها المذهبية والطائفية وخاصة من قبل جماعة الحوثي التي ترى في حروبها هذه استعادة لحق مسلوب من آبائها الإماميين، عدا عن الأبعاد الجديدة والخطيرة لدوافع هذا الحرب، المتمثلة في بروز البعد الطائفي المدعوم إيرانيا وغربيا أيضا، ضمن إستراتيجية التقسيم الطائفي للمنطقة العربية التي وضعها برنارد لويس كمرحلة ثانية لمشروع سايس بيكو القديم.
فيمنيا لم تكن مسألة البعد الطائفي المذهبي للحرب شيئا جديدا، فكل أدبيات الصراع في اليمن ما قبل ثورة الـ26 سبتمبر/أيلول 1962 حافلة بهذا البعد المذهبي والطائفي للحرب، من حروب الزرانيق إلى حروب المقاطرة وقبلهما ثورة الفقيه سعيد وحروب البيضاء وحتى حروب المناطق الوسطى في ثمانينيات القرن الماضي وما بعدها، بما في ذلك حرب صيف 1994، وقبلها ما سميت بالحرب الملكية الجمهورية، التي تعتبر حروب اليوم امتدادا لها، بين توجهين إثنين عصبوي (طائفي) و وطني (جمهوري)، مع تغير طفيف في الأهداف والمسميات، لكنها بقيت نفس المضامين، فتلك الحروب في مسارها الأخير تم توظيفها في إطارها وأبعادها الطائفية كمكاسب سياسية فئوية بعد ذلك تمثل بإقصاء كل مناطق اليمن لحساب منطقة بعينها ببعدها المذهبي الواضح.
ومع هذا، تستمر الحروب في اليمن اليوم بكل أبعادها التي ذكرناها محمية بإطارها الوطني الذي يحصن الجبهة الوطنية الداخلية من أي انزلاق نحو دائرة الحروب المذهبية والطائفية التي تشتعل بها المنطقة كلها في هذه اللحظة، تماشيا مع البعد الدولي والإقليمي الساعي "لطيفنة" (إثارة البعد الطائفي) الصراع في المنطقة العربية كآخر مراحل التمهيد للتقسيم المذهبي والطائفي للمنطقة بعد أن فشل التقسيم على أسس قطرية وجغرافية لسايكسبيكو.
أما في الحالة اليمنية اليوم فتكمن الأسس الحامية من الانزلاق نحو مربعات الاقتتال الطائفي المستثمر فيه إيرانيا بشكل كبير منذ ثمانينات القرن الماضي -وحتى من قبل أطراف عربية بقصر نظرها- في أن الحالة اليمنية أكثر تحصنا وأن صراعها مع الأفكار الخرافية والطائفية تم تجاوزه بأسس مرجعية وطنية واضحة منذ أكثر من عشرة قرون من الزمن، من خلال ذلك البعد الذي أسسه مفكر اليمن وعلامتها الكبير أبو الحسن الهمداني الذي أطرها في إطارها القومي الوطني أيضا باعتبار أن الصراع يرتكز أساسا حول جملة من الأفكار الخرافية والعنصرية التي أتى بها مؤسس الزيدية السياسية في اليمن يحيي بن الحسين الرسي.
وهكذا توالت محطات الصراع في اليمن منطلقة من هذا البعد الوطني الواضح، بمعني أن الصراع أيضا تمحور في إطاره الزيدي الخاص من خلال صراع أجنحة الزيدية السلالية الهاشمية والقبلية أيضا، وبالتالي، بقيت الزيدية في مربعات جغرافية ضيقة وصغيرة ولم يتسن لها الانتشار والتوسع، مما جعلها محصورة ومتكلسة، وسهل عملية التخلص منها على مدى فترات الصراع مع بقاء البعد الاجتماعي لها ممثلا باستخدامها كمظلة للهيمنة في بعدها القبلي في العهد الجمهوري بفعل تدخل أطراف عربية إبان ما سمى بالمصالحة الوطنية 1970 التي حسمت المصالحة في إطار الزيدية نفسها على حساب الثورة والجمهورية والجمهوريين الأحرار الذي قاموا بالثورة.
واليوم ومع عودة الزيدية المذهبية في مسماها الجديد (تحالف الحوثي وصالح) الذي يمثل امتدادا تاريخيا للزيدية السياسية ببعدها المذهبي والقبلي، ومع كل تحشيداتها المذهبية إلا أنها تبقى عاجزة عن حصر الصراع في إطاره المذهبي لما بنته وعمقته ثورتا الـ 26 سبتمبر/أيلول 1962 و 11 فبراير/شباط 2011 من قواعد وطنية عامة للثورة التي ارتكزت على مضامين النظام الجمهوري وكل استحقاقاته التي يحارب اليوم من أجلها كل اليمنيين حتى من المحسوبين مذهبيا وجغرافيا على مناطق المذهب الزيدي وهم أكثرية في إطارهم الجغرافي، رغم كل حالة القمع التي تمارس ضدهم أو التحييد لهم.
تعمل جماعة الحوثي تحديدا على مذهبة الصراع ليسهل لها التجنيد والتحشيد، وكذلك صالح وإن بشكل أكثر سرية، وعلى تصوير الصراع على أنه صراع مذهبي بين الزيدية والشافعية وبين اليمن الأسفل واليمن الأعلى حسب المسميات التاريخية لأطراف الصراع، لكن يبقى اليوم وجود الشرعية التي حصرت الصراع في دائرة الشرعية والانقلاب، هو الضامن الأكثر أمانا لعدم انزلاق مسار الصراع عن إطاره الوطني الواضح (شرعية وانقلابا)، رغم كل الخلل والتقصير الذي تعانيه الشرعية.
مع هذا، يبقى ضمان استمرار توصيف الصراع في هذا الإطار السياسي (الشرعية في مواجهة الانقلاب) محاطا بكثير من المخاوف في ظل طول أمد المعركة، وبقاء مناطق محسوبة على المذهب الزيدي دون قتال وثورة وتمرد على هؤلاء الانقلابين، وفي ظل عدم الإسراع من قبل الشرعية في حسم كثير من ملفاتها الإدارية في إدارة المناطق المحررة وتقديم نموذج يقتدى به، وهو ما يتطلب حضورا فاعلا للشرعية وأجهزتها وخدماتها حضورا بكل أبعاده.
وهنا نعود مرة أخرى للقول إن أكبر ضمان لعدم انزلاق الصراع عن بعده السياسي هو الإسراع في عملية التحرير وانخراط كل أبناء المناطق المحسوبة على المذهبية الزيدية تاريخيا في الثورة والتمرد على هذا الانقلاب الذي أهان تلك المناطق وقبائلها وحولها إلى مناطق أكثر خضوعا واستبدادا وانتهاكا لكرامة أبنائها وحرياتهم، وهو ما غير من الصورة النمطية عن الحمية والنخوة القبلية لدى قبائل تلك المناطق التي سلمها مشايخها لقمة سهلة لمليشيات عنصرية تعيث فيها فسادا وهمجية وانحطاطا.
الجانب الآخر أيضا هو الدور الوطني الكبير للحركة الإصلاحية تحديدا والوطنية عموما والتي ساهمت بشكل كبير على مدى عقود مضت في تجفيف البيئة المذهبية للفكرة الإمامية الكهنوتية التي كانت تعمل على تعميق الانقسام الوطني مذهبيا وسلاليا وعصبويا وقبليا، هذا البعد الذي يجب أن نأخذه في الاعتبار باعتبار الحركة الإسلامية واحدة من أهم ضمانات عدم الانزلاق الصراع إلى مربعات طائفية ومذهبية مما يساعد في حماية الوحدة الوطنية ونسيجها الاجتماعي ويسهل من التخلص من هذا الوباء الاجتماعي الخطير الذي إن تمكن قد يتسبب في تمزيق النسيج الوطني والاجتماعي لليمن والمنطقة كلها.
أخيرا، فإن من عوامل عدم الانزلاق نحو الصراع المذهبي والطائفي هو طبيعة الفكرة الزيدية ذاتها، فكرة سلالية ترتكز على تقسيم المجتمع خصوصا وأتباعا إلى طبقات اجتماعية على شكل هرم في قمته ما يعرف يمنيا بالهاشميين أو السادة، أما بقية أبناء المجتمع فليسوا سوى درجة أدني لا حرية لهم، بل هم مجرد أتباع للطبقة الإمامية الحاكمة وجند لها وتبع لها فيما تريد وتأمر، وتلك من أهم العوامل التي تجعل الزيدية دائرة ضيقة ومغلقة.
* عن الجزيرة نت
للإشتراك في قناة ( اليوم برس ) على التلغرام على الرابط
https://telegram.me/alyompress
اقرأ ايضا :
اضف تعليقك على الفيس بوك