أصدرت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان هذا التقرير للتعريف بمفهوم العدالة الانتقالية، ورصد حالتها في دول الربيع العربي، وكيف أفلت زعماء هذه الدول بعد الثورات من العقاب.
واعتبر التقرير أن التغيير في هذه الدول كان شكليا لا يمس جوهر النظام القائم، مما أدى إلى إفلات الزعماء المطاح بهم من العقاب على جرائم اقترفوها بحق شعوبهم على مدار سنوات حكمهم الطويلة.
وقد تم الانتهاء من هذا التقرير في يونيو/حزيران 2013، قبل أيام قليلة من عزل الرئيس المصري السابق محمد مرسي من الحكم، لذا لا يتضمن الوقائع التي تلت عزله، وما شهدته مصر من أحداث تستدعي تحقيقات عادلة وجدية.
كما يراعي التقرير خصوصية الحالة اللبيبة الناشئة عن قتل الرئيس السابق معمر القذافي، مما حدا بمعد التقرير أن يهتم بالانتهاكات التي وقع فيها أطراف الصراع، دون أن يتعرض أي منهم لمحاكمة جادة.
مفهوم العدالة الانتقالية
يرى معد التقرير أن "العدالة الانتقالية" عنوان تندرج تحته مجموعة من الإجراءات، اتخذتها مجتمعات مختلفة، عند خروجها من مرحلة في تاريخها اتسمت بممارسات استبدادية، وانتهاكات لحقوق الإنسان، إما تحت وطأة نظام حكم ديكتاتوري، أو نظام فصل عنصري، أو حرب أهلية، بهدف تحقيق السلم الاجتماعي المفتقد بين فئات تعرضت للظلم، وأخرى يشار إليها بأصابع الاتهام بممارسته.
ونظرا لتأرجح التجارب الأولى للعدالة الانتقالية في دول أوروبا الشرقية، وانهيار الديكتاتوريات العسكرية في أميركا اللاتينية، وضع المركز الدولي للعدالة الانتقالية -وهو مؤسسة دولية غير حكومية بدأت عملها في مارس/آذار 2001- إطارا نظريا يحدد الوسائل التي يمكن من خلالها تحقيق هذه العدالة، من خلال وضع نظرية تعرض بشكل تفصيلي مختلف العناصر الأساسية اللازمة، ومساعدة عدد كبير من الدول في بناء منظومات العدالة الانتقالية وفقا لظروفها المختلفة.
وتشمل الإجراءات التي وضعها المركز، الدعاوى الجنائية في إطار النظام القضائي التقليدي، ولجان الحقيقة، وبرامج التعويض أو جبر الضرر من خلال تعويضات تقدمها الحكومات للمتضررين، وإصلاح أجهزة الأمن وإعادة تأهيلها، مع ضمان عدم تكرار ارتكابها لانتهاكات قانونية، وجهود تخليد الذكرى لتوثيق أسماء الضحايا وما تعرضوا له.
ووفق هذه العناصر يرى التقرير أن دول الربيع العربي، لم تحقق حتى الآن أي خطوات ملموسة لإقامة منظومة العدالة الانتقالية.
مصر
شهدت الثورة المصرية سقوط 830 شهيدا وفق التقديرات الرسمية، أو أكثر من ألف وفق تقديرات حقوقية مستقلة، ورأى التقرير أن الفترة التي تلت سقوط نظام مبارك لم يخرج حديث العدالة الانتقالية خلالها عن نطاق التنظير، حيث بدأ تشكيل لجان تقصي الحقائق حول أحداث قتل المتظاهرين وإصابتهم مبكرا، وتشكلت أولى هذه اللجان قبل تنحي مبارك عن منصبه بيوم واحد بقرار من رئيس وزرائه الفريق أحمد شفيق.
كما توالى تشكيل لجان تقصي الحقائق، بقرارات وزارية أو برلمانية، كانت آخرها اللجنة التي أصدر الرئيس السابق محمد مرسي قرارا بتشكيلها، في الخامس من يوليو/تموز 2012، للتحقيق في وقائع قتل المتظاهرين بكافة أنحاء الجمهورية.
ولم يكن خفيا أن أيا من هذه اللجان لم تتمكن من وضع يدها بدقة على المسؤولين عن سقوط الشهداء، كما لم تستطع ملاحقة المتهمين بقتلهم.
ويتناول التقرير إجراءات محاكمة الرئيس الأسبق حسني مبارك، ووزير داخليته حبيب العادلي وكبار مساعديه، كما يتناول وقائع محاكمة المتهمين في قتل المتظاهرين بميدان التحرير الشهيرة بموقعة الجمل، وكذلك محاكمة ضباط الشرطة المتهمين بقتل الشهداء في مختلف المدن المصرية.
وبسبب غياب منظومة للعدالة الانتقالية، اختارت النيابة المصرية تجزئة قضايا قتل المتظاهرين بحسب النطاق الجغرافي، فأحالت النيابات المختلفة 34 قضية إلى نحو 26 محكمة جنايات، وحتى إعداد هذا التقرير، كانت هذه المحاكم قد أصدرت أحكاما بالإدانة ضد عشرين متهما فقط، فيما برأت 101 متهما، بينما استمرت محاكمة 71 آخرين.
تونس
وكان هروب الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي طريقا تقليديا للإفلات من العقاب، رغم ما تمتعت به عملية إعداد مشروع للعدالة الانتقالية في تونس من مواصفات مثالية من حيث الشكل، كان من المفترض أن تبشر بنتائج مرضية.
فقد تم تشكيل لجنة للحوار الوطني حول العدالة الانتقالية، وقانونها، ومساءلة المتورطين، وجبر أضرار الضحايا، إلا أن هذه الجهود واجهت عددا من المعوقات، من بينها ضعف الإمكانات المادية، ونفور المصابين وذوي الشهداء من مسار المحاكمات العسكرية لقتلة الثوار، والنظر بعين الشك إلى نوايا اللجان الخاصة بالحوار والمصالحة، باعتبارها تمهد لإيجاد مخارج قانونية تمنح الحصانة لمرتكبي الجرائم.
ويستعرض التقرير مسار لجان الحقائق المختلفة، والتي بدأت باللجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق، المشكلة في يناير/كانون الثاني 2011، وحدد مرسوم أصدره الرئيس المؤقت -حينها- فؤاد المبزع، عملها في تقصي الحقائق والتجاوزات والانتهاكات التي شهدتها البلاد خلال الفترة الممتدة من 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 وحتى زوال موجبها.
ويتوقف معد التقرير أمام الدعاوى الجنائية التي أحالها القضاء العدلي (المدني) إلى ثلاث محاكم عسكرية دائمة، وصدرت أحكام نهائية في بعض هذه القضايا، بينما لا تزال غالبيتها تنظر أمام المحاكم العسكرية بدرجتيها الابتدائية والاستئنافية، كما أن بعض هذا القضايا لم يبدأ النظر فيه حتى إعداد التقرير.
وقد أحيل الرئيس التونسي المخلوع إلى المحاكمة العسكرية في قضية شهداء تالة والقصرين والقيروان وتاجروين، كما أحيل في نفس القضية وزير داخليته رفيق بلحاج قاسم، ومدير الأمن الأسبق على السرياطي، بتهمة القتل العمد والمشاركة في قتل المتظاهرين، وطالبت النيابة بإنزال عقوبة الإعدام ببن علي، وتوقيع العقوبة القصوى على بقية المتهمين.
وفي 13 يونيو/حزيران 2012 أصدرت المحكمة العسكرية الابتدائية بالكاف حكما غيابيا ضد بن علي بالسجن المؤبد، وبسجن بلحاج 12 عاما.
اليمن
يرى التقرير أن خشية قوى إقليمية ودولية من تطور المواجهة بين السلطة ومعارضيها في اليمن إلى نزاع مسلح مفتوح يهدد المنطقة، دفعت هذه القوى للتدخل بثقلها لفرض ترتيبات سلمية لنقل السلطة في اليمن، حيث كان قرار مجلس الأمن رقم 2014 الداعم لهذه الترتيبات، مع اتفاق الرياض الذي تضمن منح الرئيس اليمني السابق حصانة من الملاحقة، الخطوة الرئيسة لإفلات علي عبد الله صالح من العقاب.
فبناء على اتفاق الرياض، أصدر البرلمان اليمني قرارا في فبراير/شباط 2012 بمنح صالح الحصانة التامة من الملاحقة القضائية والقانونية، كما منحت الحصانة لكبار المسؤولين الذين عملوا مع صالح في مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والأمنية، مع تحصين القرار نفسه من الطعن عليه باعتباره من أعمال السيادة.
وبعد تحصين صالح وأعوانه، ناقش البرلمان اليمني مشروعا للعدالة الانتقالية، وسط اعتراضات وخلافات متزايدة، واحتجاجات عديدة في الشارع باعتبار القانون غير كاف للعدالة المنشودة، كما تعثرت كافة جهود إنشاء أية لجان مستقلة لتقصي الحقائق خلال فترة الثورة اليمنية، أو خلال حكم صالح الذي استمر 23 عاما.
ورغم سقوط نحو 270 شهيدا خلال الانتفاضة ضد صالح، وإصابة أعداد كبيرة نتيجة استخدام العنف المفرط من قبل قوات الجيش والأمن، فإن القضاء اليمني لم ينظر حتى اليوم سوى قضية واحدة تتعلق بقتل المتظاهرين في "جمعة الكرامة"، رغم تعدد وقائع القتل في أحداث مسيرة ملعب الثورة، التي قتل فيها 12 شخصا، ومعركة تعز التي فتحت فيها قوى الأمن النار على المتظاهرين فأردت منهم 13 قتيلا وعشرات المصابين، وأحداث ساحة التغيير المشهورة بمذبحة "كنتاكي" التي استمرت ثلاثة أيام وسقط خلالها 56 قتيلا.
ليبيا
وكما مثل هروب الرئيس التونسي المعزول زين العابدين بن علي حالة صارخة للإفلات من العقاب، فقد شكل مقتل الزعيم الليبي السابق معمر القذافي عقبة أمام محاسبة رأس النظام القمعي الذي عانت منه ليبيا أكثر من أربعة عقود.
ويرى التقرير أن الحالة الليبية تختلف عن غيرها، بسبب تحول الثورة إلى نزاع مسلح، وتورط جميع الأطراف في انتهاكات صارخة اعتبر معد التقرير أنها ترقى إلى وصف جرائم الحرب.
وقد تضافرت أسباب عدة للحيلولة دون إقامة نظام قوي للعدالة الانتقالية في ليبيا، مثل تعدد الأطراف المتورطة، وتبدل العلاقة بينها من التحالف إلى المواجهة، واستمرار مشكلة المليشيات المسلحة وتفاقمها، والعلاقة بين تعقيدات نزع السلاح وبين جهود تحقيق العدالة والمحاسبة، إضافة إلى فشل الحكومات المتعاقبة بعد القذافي في إحكام سيطرتها على الأوضاع الأمنية.
ورغم إصدار المجلس الوطني الانتقالي قانونين للعدالة الانتقالية، فإن هذين القانونين لم يدخلا حيز التنفيذ، ولم يتم إنشاء "هيئة تقصي الحقائق والمصالحة" المنصوص عليها في القانون الثاني، كما لم تستطع لجنة تقصي الحقائق التي شكلها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لبحث انتهاكات الحرب الأهلية في ليبيا عام 2011 دفع ملف العدالة الانتقالية إلى الأمام.
وشهدت ليبيا تشكيل محكمة خاصة لمحاكمة رموز النظام السابق، بدأت أولى جلساتها في يونيو/حزيران 2012 لنظر قضية بوزيد دوردة، رئيس جهاز الأمن الخارجي في عهد القذافي، كما قدم سيف الإسلام القذافي إلى المحاكمة في الزنتان لأول مرة في مايو/ أيار 2013، بتهمة تسريب أسرار تضر بالأمن القومي الليبي من خلال محامية انتدبتها المحكمة الجنائية الدولية للدفاع عنه، ولم تبدأ أي محكمة ليبية في نظر اتهامه بالقتل أو انتهاك حقوق الإنسان أو الفساد المالي حتى الآن.
المصدر : الجزيرة نت
للإشتراك في قناة ( اليوم برس ) على التلغرام على الرابط
https://telegram.me/alyompress
اقرأ ايضا :
اضف تعليقك على الفيس بوك