فنزويلا على شفا مواجهة مع واشنطن: استعادة تاريخ أميركي دموي في القارة اللاتينية
تشهد منطقة البحر الكاريبي تصعيداً غير مسبوق بين واشنطن وكاراكاس، مع تحركات عسكرية واستراتيجية تثير مخاوف من التصعيد المباشر. وأكد وزير الحرب الأميركي بيت هيغسيث أن الولايات المتحدة لن تتردد في اتخاذ "كل الإجراءات الضرورية" لمحاربة تهريب المخدرات، واصفاً شبكات التهريب بأنها "نسخة من التنظيمات الإرهابية مثل القاعدة"، مع تهديد واضح بعدم إفلات أي مهرب من العدالة.
التصريحات الأميركية تجاوزت مكافحة المخدرات، مشيرة إلى دور موسّع لوكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) في عمليات سرية داخل فنزويلا، تشمل دعم مجموعات محلية، ومراقبة الشحنات، وحملات تأثير لإضعاف النظام، ما يعكس استعداد واشنطن للتحرك على أكثر من صعيد. في الوقت نفسه، عزّزت الولايات المتحدة وجودها العسكري في منطقة الكاريبي بإرسال مقاتلات إف-35، وسفن حربية، وغواصات، وطائرات تجسّس، وطائرات مسيّرة، إلى جانب عشرات الآلاف من القوات، وإعادة افتتاح قاعدة بحرية في بورتوريكو، في خطوة تؤكد جاهزية واشنطن لأي تصعيد محتمل.
رداً على ذلك، خفف رئيس فنزويلا نيكولاس مادورو ظهوره العلني، وحشد قوات الاحتياط، وأقام منصات صاروخية على طول الساحل، بينما يشير محلّلون إلى أن التصعيد الأميركي يتجاوز مكافحة المخدرات، ليشكل استراتيجية ضغط لتغيير النظام، في سيناريو يذكّر بأساليب وكالة المخابرات المركزية في أميركا اللاتينية، وغيرها، خلال القرن الماضي.
العمليات السرية والضغط النفسي: استراتيجيات CIA ضد مادورو
تعتمد واشنطن على مزيج من القوة العسكرية والضغط النفسي لتضييق الخناق على نظام في فنزويلا. فقد جرى نشر نحو عشرة آلاف جندي أميركي، مدعومين بمقاتلات متقدّمة، وسفن حربية، وغواصات، وطائرات استطلاع على طول الساحل الفنزويلي، فيما أعادت الولايات المتحدة افتتاح قاعدة بحرية مهجورة في بورتوريكو بعد نحو عقدين من الإغلاق، في مؤشر على تعزيز الوجود العسكري المكثف في المنطقة. وشملت الاستعراضات العسكرية أيضاً تحليقاً لطائرات بي 52 وطائرات هليكوبتر على السواحل الفنزويلية، في ما تُفسرّه مصادر عسكرية بأنه "استعراض للقوة" و"حرب نفسية" تهدف إلى تحريك قواعد مادورو الاستراتيجية، وإظهار قدرة واشنطن على التصعيد.
على صعيد العمليات الاستخباراتية، أعلنت الإدارة الأميركية في أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، منح وكالة المخابرات المركزية الضوء الأخضر لإطلاق عمليات سرية داخل فنزويلا، تشمل اغتيالات محتملة لقيادات يُعتقد ارتباطها بشبكات المخدرات، دعم جماعات متمردة محلية، مراقبة الشحنات في الكاريبي، وحملات تأثير سرية تهدف لإضعاف النظام. وتوضح هذه الخطوات بجلاء استمرار النهج الأميركي في استخدام أدوات استخباراتية معقدة لتحقيق أهداف جيوسياسية بعيدة المدى، مستفيدة من تاريخ طويل من التدخلات في أميركا اللاتينية، مع ما يترتب على ذلك من ضغوط مستمرة على كاراكاس.
تاريخ دموي لـCIA في أميركا اللاتينية
تاريخياً، لعبت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية دوراً بارزاً في اغتيالات قادة سياسيين حول العالم، من بينهم باتريس لومومبا في الكونغو، ورافائيل تروخيو في جمهورية الدومينيكان، ونغو دينه ديم في فيتنام. ومع ذلك، كان نشاطها الأعظم والأكثر تأثيراً في أميركا اللاتينية، إذ شاركت في حملات سرية دعمت بها الديكتاتوريات الفاشية ضد الحركات الشيوعية، في إطار ما عُرف بعملية "كوندور"، ضمن سياق الحرب الأميركية ضد النفوذ السوفييتي. وخلال فترة الحرب الباردة، كانت أميركا اللاتينية ساحة رئيسية لتدخلات الوكالة، بهدف مواجهة المد الشيوعي وحماية المصالح الأميركية. ففي غواتيمالا عام 1954، دعمت الوكالة انقلاباً أطاح الرئيس المنتخب جاكوبو أربينز، ما أدى إلى حروب أهلية طويلة وأودى بحياة آلاف المدنيين.
أما في تشيلي عام 1973، فقد ساهمت الوكالة في إطاحة سلفادور أليندي، وتسهيل وصول بينوشيه إلى السلطة، ما أفضى إلى ديكتاتورية شاملة وقمع واسع للمعارضة. وفي البرازيل، عام 1964، دعمت انقلاباً عسكرياً ضد جواو غولارت، مع سنوات من التعذيب والقمع. وخلال الثمانينيات، دعمت الوكالة حركة الكونترا ضد حكومة الساندينيستا برئاسة دانييل أورتيغا في نيكاراغوا، بما في ذلك تدريب وتمويل مليشيات محلية، في ما عُرف لاحقاً بفضيحة إيران-كونترا.
وفي كوبا، منذ غزو خليج الخنازير عام 1961، سعت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية إلى اغتيال الرئيس الكوبي فيدل كاسترو، دون نجاح، مع احتدام المواجهة بين واشنطن وهافانا. كذلك، تدخلت في بنما عام 1989 لإزاحة مانويل نورييغا، ما أدى إلى سقوط النظام ومقتل مئات المدنيين. وفي هايتي، دعمت قوات انقلابية ضد جان برتران أريستيد، متسببة بانتهاكات حقوق الإنسان ودعم مليشيات. وحتى في فنزويلا، حاولت وكالة الاستخبارات المركزية إطاحة هوغو تشافيز عام 2002، عبر دعم معارضين سياسيين وعمليات سرية، رغم فشل الانقلاب. كل هذه العمليات أظهرت أن تدخلات "سي آي إيه" غالباً ما تقوض الديمقراطية وتفاقم الأزمات الاجتماعية والسياسية.
السياسة والهوية والجيوسياسية: فنزويلا على شفا مواجهة
يتداخل الملف الفنزويلي مع شبكة معقدة من المصالح الشخصية والجيوسياسية، يمثل وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، ذو الجذور الكوبية، الخط الصارم للضغط على مادورو، ذلك منذ دخوله مجلس الشيوخ عام 2010، من خلال دعم العقوبات على فنزويلا وتعزيز المعارضة، بما في ذلك ماريا كورينا ماتشادو. وتعمل ماتشادو، التي مُنحت جائزة نوبل للسلام أخيراً، واجهةً سياسيةً دولية تسمح لواشنطن بالتحرك داخل كاراكاس، بل تقيم تحالفاً مع دولة الاحتلال الإسرائيلي لأجل الانقلاب على مادورو، لكنها في الوقت ذاته تواجه اتهامات بالتآمر والخيانة من النظام الفنزويلي.
في الخلفية، تستخدم الولايات المتحدة وكالة الاستخبارات المركزية أداةً تنفيذيةً للضغط والعمليات السرية، ما يعكس صراعاً عميقاً بين السياسة الشخصية، والقيم التاريخية، والمصالح الجيوسياسية. التصعيد العسكري والاستخباراتي الأميركي يضع فنزويلا على حافة مواجهة محتملة، مع مخاطر متزايدة لاستهداف القيادات، وحملات التأثير المباشر، فيما يشير تاريخ تدخلات الوكالة في أميركا اللاتينية إلى أن هذه العمليات غالباً ما تفاقم الأزمات السياسية والاجتماعية. من جانبها، تعتمد كاراكاس على مزيج من الاستعداد العسكري والدبلوماسي، مع تعزيز قوات الاحتياط والإعلان عن أسلحة استراتيجية، مع الحفاظ على خطوط الحوار الدولية مفتوحة. ورغم ذلك، تبقى الضغوط الاقتصادية والسياسية من واشنطن عاملاً معقداً يزيد من هشاشة النظام.
السيناريوهات المستقبلية تتراوح بين استمرار التوتر مع عمليات سرية محدودة تستهدف قيادات معينة، وبين تصعيد أوضح يشمل شخصيات محورية، بينما يبقى احتمال الغزو الشامل قائماً، لكنه ضعيفاً نسبياً بسبب المخاطر الجيوسياسية والاقتصادية المصاحبة، ما يجعل الأزمة الحالية فصلاً جديداً في سلسلة التدخلات الأميركية الطويلة والمعقدة في أميركا اللاتينية.
للإشتراك في قناة ( اليوم برس ) على التلغرام على الرابط
https://telegram.me/alyompress

