نشر موقع RT قبل أيام خبرا عن طفلة صينية عرفت منذ نعومة أظفارها معنى المعاناة، بتحملها مسؤولية والدها المُقعد ومراعاة احتياجاته، "بعد هروب الأم التي أخذت معها ابنها البكر".
أشار الخبر إلى أن الطفلة جيا جيا، التي يصفها الإعلام الصيني بـ الملاك الصغير، "ترعى منذ عامين والدها الذي أصبح مشلولا بعد حادث سيارة أليم"، أسفر عن ظروف قاهرة، فاستسلمت الصغيرة لنصيبها وقبلت مصيرها برضا، وأخذت على عاتقها دور الأم مبكرا، عوضا عن أن تستشعر أحاسيس الأمومة التي تُجبل عليها كل طفلة بالفطرة مع دُمية، كما تفعل الصغيرات في سنها.
أورد الخبر كلمات الطفلة جيا، التي لا يمكن إلا أن تتوقف أمامها وتستغرق بالتفكير إذ قالت:
حينما تقرأ كلمات هذه الطفلة التي تعبّر عن شوقها لشقيقها، تظهر أمامك، لا إراديا، صورة تلك العلاقة بين الأخ وأخته في مجتمعنا، فتستشعر تلك الجروح التي لا ولن تلتئم، عند الحديث عن المرأة المستضعفة في عالمنا الشرقي، والغربي أيضا بالمناسبة، علما أنني معنيّ أكثر بما نعيشه ونعانيه نحن كشرقيين.
قد يجد أي ممن اطلع على هذا الخبر نفسه، لا شعوريا، يتذكر هذه المقولة، التي تحمل في طياتها فلسفة حياة، ما يعيد إلى قصة هذا القول المأثور، حين منح الحجاج بن يوسف الثقفي سيدة حق إنقاذ شخص واحد من ثلاثة، هم أعز الناس على قلبها، كان أصدر حكما بإعدامهم.. فاختارت شقيقها ليعفو الحجاج عن الثلاثة.
اختارت هذه السيدة الحكيمة شقيقها ليعيش.. علما أننا نرى أن هذا الشقيق الغالي، لا سيما في مجتمعنا الشرقي، ينظر إليها كعنصر زائد عن الحاجة أو مصدر لهاجس، فيتعامل معها من منطلق الأمر الواقع الذي فرض عليه حملا ثقيلا لا مفر منه.
ومع كل ذلك، لا تزال البنت في مجتمعنا دائما هي الحائط (الحيطة).. إما "واطيه" أو "مايله"، وهو ما يبدو جليّا حين ترى سلوك الأشقّاء وهم يتمرّنون على معاملة شقيقاتهم "على النحو السليم"، وكأن الهدف هو إحداث ثغرة في نفسيتها وعقدة نقص تترسخ في ذهنها، بوضعها في خانة المذنب دائما، لأنها الأنسب كي تشغل هذا الموقع، حتى عندما تكون الضحية. فإذا تبادلت نظرة بريئة مع شاب لتستشعر أنوثتها في لحظة عابرة فهي فاجرة، وقد يصل الأمر إلى قتلها لغسل العار.. في ما بات يُعرف بـ "جرائم الشرف"!
أما إذا اغتصبت فهي "المخطئة" طبعا، لأنها "أثارت" رغبة الشاب، و"تلاعبت" بغريزة هذا المسكين غير القادر على التحكم بنفسه، ولإنهاء المشكلة، أي لإنقاذ الجاني من مواجهة المسؤولية، يُعرض عليه الزواج منها "لينتهي الأمر".. مع كل ما يحمله هذا الإجراء من استهتار بمشاعرها وإهانة لكرامتها.
لم نبرر ضعف الشاب في هذه الحالة مجتمعيا.. في مقابل امرأة لا حول لها ولا قوة؟ لم نرضى بمفاهيم كهذه منذ طفولتنا، حتى تتماهى مع غيرها، لتشكّل نمط حياتنا وتتحول إلى تابوهات مقدسة يصعب الخروج عليها؟
ألا يعيد ذلك إلى الأذهان فيديو الداعية الإسلامي علي المالكي بعنوان.. "اللي يتزوج بنتك هو صاحب الفضل - شال عنك عار"؟
بل هناك ما هو أكثر من ذلك. تحتل اللغة العربية المركز الثالث من حيث عدد المفردات المتداولة في اللغة الأردية.. ويكفي لمعرفة حجم المأساة ومعاناة النساء في مجتمع كهذا، التعرف على كلمة واحدة فيها وهي امرأة، التي تعني بلغة الأوردو "عورت"! هل هناك ضرورة للترجمة؟
لكننا، كعرب، لسنا بمفردنا. فهناك من الأمثال والنكات والعادات الروسية ما يكرس للشوفينية الذكورية، ويحمّل المرأة مسؤولية "إثارة" الرجل، و"التلاعب" بغرائزه. لذلك فليطمئن القارئ الكريم، لأن ازدواجية المعايير التي تقاسي بسببها المرأة ليست حكرا علينا نحن العرب.
تعاني المرأة بسبب المعايير المزدوجة في كل أرجاء العالم، وإن كانت لهذه المعاناة وجوه عدة في مجتمعاتنا الشرقية، تبرز جيدا في طريقة التعامل مع المساكنة قبل الزواج والخيانة الزوجية.. والفرق بين أب في حال قرر أن يزور ابنه الذي يعيش في الخارج وفي حال قررت ذلك أمه.
قد لا يرى كثيرون ما هو معيب في سلوك الوالد الشبابي الذي يريد أن يمتع نظره وربما أن "يلعب بديله" قليلا.. بل قد يكون ذلك مدعاة لمباهاة الشاب أمام أصدقائه. لكن هل رد الفعل هو ذاته في حال قررت السيدة الوالدة أن "تبصبص شوية"؟
يستسيغ البعض قصة يرون أنها تحمل عبرة قالها الحكيم الصيني كونفوشيوس. تقول القصة إن سيدة قصدت كونفوشيوس بينما كان يشرب الشاي وسألته: لماذا يحق للرجل أن يحب أكثر من امرأة بينما لا يُسمح للمرأة أن تحب سوى رجلا واحدا ؟ فأجابها قائلا: "أنت ترين إبريق شاي وحوله فناجين عدة فهل هذا طبيعي؟".. ردت السيدة بالإيجاب فسألها كونفوشيوس: "وهل من الطبيعي أن يكون هناك عدة أباريق حول فنجان واحد؟".
تقول الحكاية إن السيدة فهمت المغزى الواضح من هذه القصة، وانصرفت دون أن تقول شيئا. قصة قد تبدو ذكية وحجة جيدة للرجل.. لكنها حتما مجرد قصة، تحاول تبسيط الأمور وإقناع الذات الذكورية قبل المرأة بحق الرجل بـ "دونجوانيته"، علما أنها إن أثبتت شيئا، فهي تثبت أن الرجل الذي يسمح لنفسه بازدواجية المعايير هذه، إنما هو العار على نفسه، إذ لا يحق له أن يطالب رفيقته بما لا يلتزم هو به.. ما يعني أن مفهوم العار ربما يكون أقرب إلى الرجل منه للمرأة التي يُزرع فيها منذ طفولتها أنها هي التربة الخصبة لهذا العار.
هل هناك مقدس في هذه الحياة؟ بعيدا عن المعنى التقليدي الذي يتبادر إلى الأذهان حين يدور الحديث عن "القدسية"، الإجابة نعم. ضحكة الطفل هي المقدسة، وكل ما من شأنه أن يرسم البسمة على محيّا أي طفل هو مقدس.
بالنسبة لي.. عالم والت ديزني قد يكون هو البقعة الأكثر قدسية على سطح كوكبنا، حيث تصدح ضحكات الأطفال، وحيث لا ترى في هذا العالم السحري سوى الفرح والبهجة في عيون بريئة. عالم سحري فعلا، يتذكر فيه الكبير معنى البشاشة.. فيعود إلى الطفولة ونقاء السريرة.. ليعود ملاكا صغيرا، تتماهى روحه مع الطفلة جيا التي تشتاق إلى أخيها، وتعتني بأبيها انطلاقا من عمق أحاسيسها النبيلة.. الرفيعة.. الإنسانية في نهاية المطاف.
هل هو قدر الجنس اللطيف؟ نعم هو الجنس اللطيف لكنه لا يجب أن يكون الضعيف. فالبنت في مجتمعاتنا مظلومة على الرغم من أنها أثبتت أنها الأقوى، إلا أنها، ومع كل ذلك، تظل دوما الحلقة الأضعف.. أم هو تجسيد لمقولة كارل ماركس: قوة المرأة في ضعفها؟
علاء عمر RT