في آخر تجربة وباء قاتل نشر الذعر حول العالم، كانت الخسائر الاقتصادية أقل بكثير من المتوقع، ورغم ضعف أداء واضطرابات الأسواق المالية آنذاك إلا أنها كانت قادرة على تعويض خسائرها بعد انحسار الخوف.
كان ذلك عندما تشفى فيروس سارس في الصين، والذي استمر لمدة 8 أشهر بين عامي 2002 و2003، عاشت البلاد خلالها أجواء مماثلة لما تعيشه الآن، من حجر صحي وعزل للمدن ومخاوف المواطنين من الخروج إلى الشوارع.
قتل سارس نحو 800 شخص وأصاب 8 آلاف على الصعيد العالمي، وفي الصين وحدها تسبب في مقتل 350 شخصًا وإصابة 5 آلاف، وبلغت خسائر الاقتصادات الآسيوية قرابة 40 مليار دولار، وانخفضت أسواق الأسهم الرئيسية بشكل حاد لكنها عوضت الخسائر بعد انتهاء الوباء.
بالنظر إلى الصين في الوقت الراهن، يبدو الوباء الحالي -كورونا الجديد- أكثر فتكًا من سابقه، إذ تجاوزت الوفيات حتى الآن ومنذ اكتشاف الفيروس قبل شهر، 360 حالة، وأصيب أكثر من 17 ألف شخص.
لكن ذلك، يعني أن معدل الوفيات بسارس بلغ نحو 10%، مقابل 2% تقريبًا للفيروس التاجي الجديد. على أي حال هناك أمور أكثر أهمية بالنسبة للأسواق المالية والاقتصاد، مثل النطاق الجغرافي لانتشار الوباء واستمراريته والإجراءات الاحترازية المترتبة.
مدن الأشباح والعزلة الصينية :
كما كان الوضع مع فيروس سارس، فإن الكثير من المناطق في الصين تحولت تقريبًا إلى مدن أشباح، معزولة وممنوع الدخول أو الخروج منها، وألغيت الاحتفالات واجتماعات الشركات، والتزم السكان المحليون منازلهم خوفًا من التعرض لأي ناقل للعدوى.
في ظل المخاوف من تفشي الوباء، عُلقت الكثير من رحلات الطيران إلى الصين وأغلقت بلدان مجاورة حدودها في وجه الصينيين، وعلقت المتاجر الكبرى والمطاعم والمقاصد السياحية وحتى الشركات الصناعية في جميع أنحاء البلاد أعمالها.
مع عزل المدن والخوف من الخروج للشوارع، تعرضت صناعات التجزئة والسفر والسياحة لضغوط كبيرة، خاصة أن ذلك تزامن مع موسم عطلات السنة القمرية الجديدة، الذي يعد أكبر مناسبة للهجرة البشرية الطوعية في العالم، إذ يسافر مئات الملايين من الصينيين باستخدام القطارات والحافلات والطائرات للالتقاء بأسرهم.
وعلى سبيل المثال، أعلنت سلسلة مقاهي "ستاربكس" إغلاق أعمالها في مدينة ووهان –مركز تفشي الوباء- واتخذت مطاعم "كينتاكي فريش تشكن" و"بيتزا هت" و"ماكدونالدز" وشركة "تويوتا" و"ايكيا" إجراءات مماثلة، بالإضافة إلى مناطق الترفيه مثل مدينة "ديزني" في شنغهاي وهونغ كونغ.
من جانبه، قال رئيس قسم الدراسات الصينية في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية بواشنطن، جود بلانشيت، لشبكة "سي إن إن":
تزامن الوباء مع السنة الجديدة في الصين، والتي تعد أهم حدث اقتصادي في البلاد –أنفق الصينيون 150 مليار دولار خلال عطلة العام الماضي- سيكون له تداعيات اقتصادية كبيرة.
في انعكاس للمخاوف لدى المستثمرين المحليين، سجلت الأسهم الصينية خسائر خلال تعاملات الإثنين، أول جلسة تداول منذ العودة من العطلة التي امتدت 10 أيام، بنسبة 8%، وهي أكبر وتيرة هبوط منذ أغسطس/ آب 2015، بحسب وكالة "بلومبيرغ".
وقادت الخسائر أسهم شركات الاتصالات والتكنولوجيا ومنتجي السلع الرئيسية، وهبط أكثر من 3 آلاف سهم بالحد الأقصى اليومي للهبوط في تلك الجلسة، في حين كان قطاع الرعاية الصحية هو الوحيد المستفيد بشكل ملحوظ.
مخاوف وتداعيات عالمية كبيرة :
قبل عودة الأسواق الصينية من العطلة، كانت مخاوف المستثمرين العالميين مجسدة في الأداء المضطرب لأسواق الأسهم حول العالم، حتى أن خسائر الأسهم العالمية تجاوزت 1.5 تريليون دولار خلال أسبوع واحد.
هذا مفهوم، إذ يشعر المستثمرون بالقلق لعدم اليقين إزاء التداعيات الحقيقة للفيروس ومتى سيتم القضاء على الوباء. بيد أن بعض الإشارات ظهرت قبل أيام لتعطي لمحة عن المصير الذي يتجه إليه الاقتصاد العالمي، وتمركزت هذه العلامات في أسواق السلع تحديدًا.
وعلى مدار الشهر الماضي، انخفضت أسعار شحن السفن العملاقة التي عادة ما تستخدم لنقل السلع الأساسية والمواد الخام مثل خام الحديد، بنسبة 50% لتعمق خسائرها منذ سبتمبر/ أيلول عندما اقتربت من 40 ألف دولار إلى 90%، وتسجل حاليًا أقل من 4 آلاف دولار لليوم.
هذا الانخفاض الحاد في أسعار الشحن قد يكون مؤشرًا على ركود حركة التجارة، ويعكس بالمقام الأول مدى تأثير الصين على أسواق السلع العالمية، حيث أثر الفيروس سلبًا على أسعار العديد منها بداية من النفط وحتى النحاس.
وألغت شركات طيران في أمريكا الشمالية وأوروبا وآسيا رحلاتها إلى الصين، فيما قررت خطوط جوية أخرى إعادة المستحقات المالية للمسافرين بعد إلغاء رحلاتهم، تزامنًا مع جهود بكين لاحتواء انتشار فيروس كورونا الجديد.
وأعلنت شركات من بينها، الخطوط الجوية البريطانية وطيران آسيا وطيران الهند و"كاثي باسيفيك" و"يونايتد إيرلاينز" و"فاين إير"، بالإضافة إلى شركات في المغرب ومصر وإيطاليا وفرنسا، عن خطط لإلغاء عدد من الرحلات المتوجهة إلى الصين، أو وقف السفر بشكل كامل.
من جانبها، قالت وكالة "بلومبيرغ" إن الطلب الصيني على النفط هبط بنحو 3 ملايين برميل يوميًا، أو ما نسبته 20% من إجمالي الاستهلاك المحلي، في ظل الضغوط التي يشكلها فيروس كورونا على الاقتصاد، وهي كمية هائلة تتجاوز حجم الإنتاج الكويتي أو ما نسبته 10% من إمدادات منظمة "أوبك".
ويقول رئيس البنك المركزي الأمريكي، جيروم باول:
الصين ذات أهمية كبيرة جدًا للاقتصاد العالمي الآن، وعندما يتباطأ النمو لديها، فإننا نشعر بذلك، وخاصة البلدان المجاورة لها، وتلك التي ترتبط معها بنشاط تجاري كبير مثل بعض دول أوروبا الغربية.
التداعيات لن تتوقف عند حدود الصين :
رغم تسارع وتيرة انتشار المرض، كانت الاضطرابات محدودة في سلسلة التوريد العالمية، لكن السبب الرئيسي هو عطلة رأس السنة الصينية الممتدة، ولا تزال هناك مخاوف من استمرار إغلاق المنشآت لفترة أطول.
وقالت وكالة التصنيف الائتماني "ستاندرد أند بورز": "بصرف النظر عن المخاطر التي تهدد حياة البشر، فمن المحتمل أن تتضرر أنشطة السفر والاستهلاك، وفي أسوأ السيناريوهات لتفشي العدوى، يمكن أن يضعف النمو الاقتصادي وتضطرب الأوضاع المالية للحكومات الآسيوية".
تقع مدينة ووهان وغيرها من المدن المعزولة في مقاطعة هوبي، التي تولد وحدها 4.5% من إجمالي الناتج المحلي للصين، ومع تعطل الحياة بها فإن الخطر الاقتصادي يتعاظم، ويعتمد حجم الضرر النهائي على المدة التي المطلوبة لوقف انتشار الفيروس، وهو ما يبرر مخاوف مستثمري أسواق المال، إذ يواصل الوباء انتشاره بسرعة كبيرة للغاية حتى الآن.
بالعودة للحديث عن سارس والذي بدت خسائره الاقتصادية محدودة، يجدر الإشارة إلى أن الصين وقتها كانت تشكل 4% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، لكنها الآن تشكل 16% منه، وبالتالي فمن غير المتوقع انحسار مخاطر تباطؤ الاستهلاك والإنتاج داخل أراضيها فقط.
مع ذلك، يعتقد الباحثون أنه حال انتهاء الوباء وتلاشي مخاوف المستثمرين، سننتعش الاقتصاد الصيني بشكل قوي وستعود الأسواق إلى طبيعتها، ويتدفق الناس على المتاجر والمطاعم، وسوف تعزز المصانع إنتاجها لتعويض خسائرها، ومن المتوقع زيادة الإنفاق الحكومي على البنية التحتية لدفع النمو.
كيف سيتأثر الاقتصاد العالمي؟
من جهته قال الخبير لدى الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، تشانغ مينغ، لوكالة "دويتشه فيله"، إنه من المتوقع تسبب وباء كورونا الجديد في تقليص معدل النمو بمقدار نقطة مئوية ليسجل 5% أو أقل خلال الربع الأول من العام الجاري في الصين.
لكن هناك نظرة أكثر تشاؤمية، إذ يقول المحلل لدى شركة الاستشارات "بلينوم"، تشن لونغ، لمجلة "الإيكونوميست" إن النمو في الصين سيهبط إلى 2% خلال الربع الأول، وهو ما سيكون أضعف معدل منذ عقود، ويقارن بـ 6% خلال الربع الماضي.
لمعرفة كيف سيؤثر ذلك على الاقتصاد العالمي، تقول وحدة "أوكسفور إيكونوميكس" للدراسات الاقتصادية في السيناريو (المعتدل) الذي تتوقعه، إن الاقتصاد الصيني سينمو بنسبة 5.6% (على مدار عام 2020 بأكمله) مقارنة بـ6.1% لعام 2019.
حال حدث ذلك بالفعل، فمن المحتمل تراجع معدل النمو العالمي بنسبة 0.2% إلى 2.3% هذا العام، وهي أبطأ وتيرة نمو منذ الأزمة المالية العالمية في 2008.
طمع أمريكي :
في الوقت الذي تنصب فيه اهتمامات الاقتصاديين على الآثار السلبية المحتملة على النمو والصناعة والتجارة في الصين لقياس مدى تأثر العالم بها، يعتقد وزير التجارة الأمريكي، ويلبر روس، أن التداعيات ستكون إيجابية على اقتصاد بلاده.
وقال روس إن الفيروس سيدفع الشركات الأمريكية والعالمية لإعادة النظر في سلاسل الإمداد الدولية التي تتمركز حول الصين، وإمكانية التخارج منها وإعادة الوظائف إلى الولايات المتحدة والمكسيك سريعًا.
للإشتراك في قناة ( اليوم برس ) على التلغرام على الرابط
https://telegram.me/alyompress
اقرأ ايضا :
اضف تعليقك على الفيس بوك