"نزل بالعمران شرقا وغربا في منتصف هذه المئة الثامنة.. الطاعون الجارف الذي تحيَّف الأمم، وذهب بأهل الجيل...، وانتقص عمران الأرض بانتقاص البشر، فخربت الأمصار، ودرست السبل والمعالم، وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل...؛ وكأنما نادى لسانُ الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة...، وكأنه خَلق جديد ونشأة مستأنَفة وعالَم محدَث"!!
بالجُمل أعلاه؛ وصف المؤرخ ابن خلدون (ت 808هـ) -في ‘المقدمة‘- "الطاعون الأسود" الذي اجتاح عالم زمانه منتصف القرن الثامن الهجري (الـ14 الميلادي). وفي وضع راهن يتجه لمحاكاة تلك الجائحة التاريخية؛ أكتب لك -عزيزي القارئ- من المكان الذي صار الزعماء السياسيون يخاطبون منه جماهيرهم، وينجز فيه موظفو المؤسسات الكبرى أعمالهم، ويتلقى فيه طلاب الجامعات دروسهم: من البيت!
فالعالم محاصَر من عدوٍّ فاتك لا نعرف مخططاته، ولا كيف نواجهه لأننا لا نراه، ولا نعرف كيف سيبدو مستقبلنا بعده. كل ما نعرفه أن نلزم بيوتنا، ونحتفظ بأيدينا لأنفسنا حتى يأذن الله بانكشاف الوباء. وأمثل ما يفعله الكاتب -في هذا الوقت- أن يُطمئن قارئه بأن هذه الحال ليست سابقةَ تاريخيّة، وأن البشريّة مرّت بهذه الظروف فعانت أشدّ صنوف المعاناة، ثم زالت الغمّة وجرى نهر الحياة دفّاقا. وبرهانا على ذلك؛ سأعرض لك موجزًا عن الطواعين والأوبئة، وأحوال الناس معهما في تاريخنا الإسلامي، وكيف ساهمت في حياة أناس، وهلاك أناس، ونفع أناس.
تعريفات وفروق
يفسر الأطباء المعاصرون الطاعون بأنه بكتيريا تسمى "يرسينيا بيستيس" (Yersinia pestis) وتتكاثر في جوف البراغيث والحشرات الصغيرة كالقمل والبقّ، وتنتقل إلى الحيوانات المستأنسة كالقطط والفئران والكلاب والمواشي، ثم تنتقل منها إلى الإنسان. وطريقة حدوث مرض الطاعون هي أن البكتيريا الطاعونية تتكاثر في جوف البراغيث مثلا، ثم تتسرب إلى مريئها فتسدّه فيورث ذلك لديها نهمة للدماء، فتطلبها من الحيوانات أو الناس فعندما تمتص منها تقيء فيها الدم الملوّث، فينتشر في الجسم ويحصل الطاعون الذي يتفشى بين الناس بالعدوى.
ومن حيث الفرق في الاستخدام الدلالي بين الطاعون والوباء؛ فقد ذهب القدماء من العلماء إلى أن الوباء هو كل مرض منتشر بما في ذلك الطاعون، لكن الأخير يتميّز بأعراضه الخاصّة. قال أبو الوليد الباجي (ت 474هـ) فيما نقله عنه ابن حجر (ت 852هـ) في كتابه ‘بذل الماعون في فضل الطاعون‘: "الطاعون مرض يعم الكثير من الناس -في جهة من الجهات- بخلاف المعتاد من أمراض الناس، ويكون مرضهم واحدًا بخلاف بقية الأوقات فتكون الأمراض مختلفة".
أما القاضي عياض (ت 544هـ) -في شرحه لـ‘صحيح مسلم‘- فقد قال مبينا الفرق بينهما عند الأقدمين: "أصل الطاعون القروح الخارجة في الجسد، والوباء عموم الأمراض؛ فسُمّيت طاعونًا لشبهها بالهلاك بذلك، وإلا فكل طاعون وباء وليس كل وباء طاعونا"، بينما يرجح محب الدين الطبري (ت 694هـ) -في ‘الرياض النضرة‘- أن "كل مرض عام -من خُرّاج أو غيره- يسمى طاعونا".
ونحن نجد في كلامهم وصفا لثلاثة أنواع من الطاعون، مع عدم تحديدهم لطبيعتها:
1- الطاعون اللمفاوي (الدمّلي): وهو تورم العُقد اللمفاوية التي تمنح الجسم القدرة على مقاومة العدوى والتعافي منها إن حصلت. وهو المراد بقول ابن سينا (ت 428هـ) -في ‘القانون في الطب‘- عند وصفه الطاعون: "مادة سُمِّية تُحدث ورمًا قتّالًا، يحدث في المواضع الرخوة والمغابن من البدن، وأغلب ما يكون تحت الإبط".
2- الطاعون الرئوي: يبدأ بالتهاب شُعَبي يتبعه فورًا استسقاء الرئتين (امتلاؤهما بالسائل)، ثم تحدث الوفاة خلال ثلاثة أيام أو أربعة. 3- طاعون تعفن الدم: وتغزو فيه البكتيريا تيار الدم فتحدث الوفاة قبل أن تبدو مظاهر الطاعون اللمفاوي أو الرئوي. ويشير إليه ابن سينا بقوله: "وسببه دم رديء مائل إلى العفونة والفساد، يستحيل إلى جوهر سُمّي يُفسد العضو ويغيّر ما يليه، ويؤدي إلى القلب بكيفيّة رديئة، فيحدث القيء والغثيان والغشي والخفقان".
وفي التعريفات الطبية المعاصرة؛ جاء في ‘الموسوعة البريطانية‘ أن "الطاعون مصطلح كان يطلق قديما على أي مرض واسع الانتشار مسبب للموت الجماعي، لكنه الآن محصور في حُمّى معدية من نوع خاص تسببه البكتيريا العصوية التي ينقلها برغوث الفئران". وأما الوباء فتعرّفه منظمة الصحة العالمية بأنه: "الجائحة التي تنتشر في جميع أنحاء العالم، أو على مساحة واسعة للغاية عابرةً للحدود الدولية، وعادة ما يؤثر على عدد كبير من الناس".
سابقة إسرائيلية
لعل أول طاعون أو وباء عام ذكرته مصادرنا الإسلامية هو طاعون وقع في بني إسرائيل، بعد أن امتنعوا عن امتثال أوامر الله وبدّلوا كلماته. قال تعالى: {فبدّل الذين ظلموا قولًا غير الذي قيل لهم، فأنزلنا على الذين ظلموا رجزًا من السماء بما كانوا يفسقون}؛ (سورة البقرة/ الآية: 59). قال الطبري (ت 310هـ) في تفسيره: "أهلكهم الطاعون". ويدل على هذا أيضًا ما رواه البخاري (ت 256هـ) -في صحيحه- من أن أسامة بن زيد (ت 54هـ) سأل النبي (ص) عن الطاعون، فقال: "الطَّاعُونُ رِجْسٌ أُرْسِلَ علَى طَائِفَةٍ مِن بَنِي إسْرَائِيلَ -أوْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ- فَإِذَا سَمِعْتُمْ به بأَرْضٍ فلا تَقْدَمُوا عليه، وإذَا وقَعَ بأَرْضٍ -وأَنْتُمْ بهَا- فلا تَخْرُجُوا فِرَارًا منه". ويمكن أن يُفهم من هذا الحديث أن بكتيريا الطاعون ظلت بين حالتيْ كمون وظهور عبر الأعصر.
وبعد مجيء الإسلام؛ فشت الطواعين والأوبئة عبر عصور تاريخه المتطاولة فُشُوًّا ظاهرًا، لا سيما في عهد الدولة الأمويّة وفي دولة المماليك. ويدلنا على هذا الانتشار الواسع للأوبئة والطواعين عددُ الكتب المؤلفة في هذا الباب. وقد رأيت كثيرًا من الباحثين يبدؤون ذكرَ مَن ألّف في هذا المجال بابن أبي الدنيا (ت 281هـ) وكتابه ‘الطواعين‘، مع أن للفيلسوف الكِندي (ت 254هـ) رسالة في الأبخرة المُصلِحة للجوّ من الأوباء. وقد أحصيت ما يزيد على 70 مؤلفًا في تاريخنا الإسلامي -مبتدئًا بالقرن الحادي عشر الهجري فما قبله- تتعلق كلها بالأوبئة والطواعين.
لم يسجل لنا أصحاب السيرة النبوية من الطواعين التي وقعت في حياة النبي (ص) إلا طاعونا وقع في فارس سنة 6هـ، وسُمّي باسم ملكها شيرويه (ت 628م). ثم وقع "طاعون عمواس" (= قرية فلسطينية كانت تقع على نحو 28 كم جنوب شرق يافا وهدمها المحتلون اليهود 1967م) سنة 18هـ "فتفانى الناس"؛ حسب تعبير الطبري في تاريخه. وكان طاعونًا فتاكًا هلك فيه 25 ألفًا؛ كما يذكر الواقدي (ت 207هـ). وقد مات فيه من كبار قادة الصحابة: أبو عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان ومعاذ بن جبل.
بيد أن البلاذري (ت 270هـ) يشير -في ‘فتوح البدان‘- إلى طاعون عنيف سابق لطاعون عمواس حدث حوالي سنة 16 للهجرة في فارس، وكانت نتائجه -من المنظور الجيوسياسي- في مصلحة المسلمين الذين تقدموا حينها في فارس ففتحوا معظم حواضرها. ونجد في ‘تاريخ دمشق‘ لابن عساكر (ت 571هـ) ذكرًا لهذا الطاعون، حيث ينقل عن أيوب السختياني (ت 131هـ) قوله: "لم يكن طاعون أشد من ثلاثة طواعين: طاعون ازدجرد (= يزدجرد وهو ملك فارسي توفي 651م)، وطاعون عمواس، والطاعون الجارف"؛ وسيأتي الكلام عن هذا الأخير.
وفي عام 24هـ؛ وقع طاعون في مصر لا نعرف عنه سوى أنه أخذ خمسة أبناء للشاعر أبي ذؤيب الهذلي (ت 27هـ) فأهدانا مرثيته البديعة لهم: "أمِنَ المنون وريْبها تتوجعُ؟!". وزعم ابن بطة العكبري (ت 387هـ) -في ‘الإبانة الكبرى‘- أن مصدر ذلك الطاعون قرية تسمى "داب" وقع فيها الطاعون، وكان معاوية أمير الشام (ت 60هـ) فأراد إجلاء أهلها، ولكن أبا الدرداء (ت 32هـ) عارضه قائلا: "كيف لك يا معاوية بأنفُسٍ قد حضرت آجالُها؟"، فامتدّ الطاعون إلى حمص ودمشق، فخرج معاوية عنها ووصل الوباء إلى مصر.
طواعين أمويّة
لم تتوقف الطواعين طوال دولة بني أمية؛ يقول ابن حجر (ت 852هـ) -في كتابه السابق ذكره- مصورًا تعاقب الطواعين فيها: "لم تنقطع [الطواعين] في خلافة بني أمية، ثم خفّ الطاعون في الدولة العباسية". وقبل ابن حجر بقرون؛ لاحظ أبو منصور الثعالبي (ت 429هـ) -في ‘ثمار القلوب‘- أنه "لم تزل الشام كثيرة الطواعين حتى صارت تواريخ، وكانت تظهر بالشام ثم تمتد إلى العراق...، ولما وَلِيَ بنو العباس [الخلافة] انقطع الطاعون إلى أيام المقتدر (ت 320هـ)". وقد أدّت الطواعين المتعاقبة إلى إنهاك الدولة الأمية فساهمت في سقوطها على أيدي العباسيين.
ينقل المؤرخ ابن تغري بردي (ت 874هـ) -في ‘النجوم الزاهرة‘- عن المؤرخ أبي الحسن المدائني (ت 225هـ) أنه أحصى 15 طاعونا حتى سنة 131هـ؛ ولكن الباحث أحمد العدوي تتبع -في كتابه ‘الطاعون في العصر الأموي‘- هذه الطواعين فوجدها عشرين طاعونًا، بمعدل طاعون في كل أربع سنوات ونصف سنة. كما بيّن ما ترتب على هذه الطواعين من تعجيل بنهاية الدولة الأموية ونجاح الثورة العباسية عليهم سنة 132هـ.
إن أول ملمح نراه في تأثير الطاعون في الدولة الأموية هو هلاك رجالها القادة وشخصياتها السياسيّة المؤثرة، ممن يعزّز وجودهم بقاء الدولة؛ فقد أهلك الطاعون أمير الكوفة المغيرة بن شعبة (ت 49 أو 50هـ)، إذ أورد ابن كثير (ت 774هـ) -في ‘البداية والنهاية‘- رواية تفيد بأنه في سنة 49هـ "وقع الطاعون بالكوفة فخرج منها المغيرة فارًّا، فلما ارتفع (= انتهى) الطاعون رجع إليها، فأصابه الطاعون فمات"!!
كما أهلك الطاعون أمير العراق زياد بن أبيه سنة 53هـ؛ فالذهبي (ت 748هـ) يحكي لنا -في ‘سير أعلام النبلاء‘- أنه "بلغ ابنَ عمر (ت 73هـ) أن زيادا كتب إلى معاوية: إني قد ضبطت العراق بيميني وشمالي فارغة، وسأله أن يوليه الحجاز. فقال ابن عمر: اللهم إنك إن تجعل في القتل كفارة فموتاً لابن سمية لا قتلا؛ فخرج في أصبعه طاعون فمات".
وممن مات من رجال الدولة بسبب الطاعون وليُّ العهد أيوب بن سليمان بن عبد الملك (ت 96هـ)، وعبد الملك بن عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ) الذي كان بمثابة المستشار لوالده. وقد نشطت الطواعين في العراق بعد سنة 60هـ؛ ففي 64هـ -أو 65هـ على رواية- وقع طاعون في البصرة فهلك فيه خلق كثير، وانشغل الناس بدفن موتاهم حتى إن والي البصرة حينها عُبيد الله بن معمر التيمي (ت نحو 83هـ) ماتت أمه فلم يجد من يقوم بحمل جنازتها "فاستأجر لها أربعة علوج فحملوها إلى حفرتها"؛ حسبما حكاه الطبري.
كما مات فيه هند بن هند بن أبي هالة ابنُ ربيب النبي الكريم (ص) وحفيد أم المؤمنين خديجة بنت خويلد (ت 3 ق.هـ) رضوان الله عليها، ويقال إنه مات في ذلك اليوم 70 ألف إنسان فشُغل الناس بجنائزهم عن تشييعه، فنادت نادبتُه: "واهند بن هنداه وربيب رسول الله، فلم تبق جنازة إلا وتُركت وحُملت جنازته إعظامًا لرسول الله (ص)"؛ حسبما أورده عياض في ‘الشفا‘. وينقل ابن كثير أن رجلا "أدرك زمن [هذا] الطاعون قال: كنا نطوف في القبائل وندفن الموتى، فلما كثروا لم نَقْوَ على الدفن، فكنا ندخل الدار -وقد مات أهلها- فنسد بابها" عليهم!!
تأثيرات عميقة
ولم تمض خمس سنوات حتى جاء "طاعون مصعب بن الزبير" (ت 72هـ). وبحسب ابن قتيبة (ت 276هـ) في ‘المعارف‘؛ فقد كان هذا الطاعون الواقع بالبصرة عام 69هـ أولَ "طاعون جارف" في الإسلام. وقد جرّأ هذا الطاعونُ -بانتشاره المهلك في العراق والشام- الرومَ على غزو المسلمين في الشام وتهديد دولة عبد الملك بن مروان (ت 86هـ)، حتى رأى أن يصالحهم ويدفع لهم جزية أسبوعية مقدارها 1000 دينار (= الآن 160 ألف دولار تقريبا). بيد أن حظّ معارضه مصعب بن الزبير كان أتعس منه، حيث كان فتك الطاعون في مقرّ إمارته بالبصرة رهيبًا؛ إذ روى المدائني -في كتابه ‘التعازي‘ وعنه نقله النووي (ت 676هـ) في ‘شرح صحيح مسلم‘- أنه كان يهلك به 70 ألفًا في اليوم الواحد.
وأورد التوحيدي (ت بعد 400هـ) في ‘الذخائر والبصائر‘ خبرا يعكس مدى أثر هذا الطاعون في إعادة تشكيل تقاليد الناس الاجتماعية؛ فقال إنه: "قيل لداود بن رشيد (الخوارزمي الإمام الثقة المتوفى 239هـ): لِمَ كره الناسُ أن يدخلوا بنسائهم في شوال؟ (فـ)ـقال: مات فيه بالطاعون الجارف تسعة عشر ألف عروس"!! ويذكر ابن قتيبة الدينوري (ت 276هـ) -في ‘الشعر والشعراء‘- أنه "لم يحضر الجمعة سوى سبعة رجال وامرأة، وعندما سأل ابن عامر إمام الجامع: أين الناس؟ ردت عليه امرأة: تحت التراب"!!
لقد كان الطاعون هذه المرة لمصلحة بني أمية؛ حيث أنهك معارضيهم الزبيريين، وهيّأ لعبد الملك أن يُلحق هزيمة ساحقة بمصعب بعد أن أكل الطاعون من جنده ما أكل. ثم لم يلبث الطاعون أن عاد إلى البصرة سنة 80هـ لينطلق منها إلى الشام والحجاز واليمن، وكان البلاء فيه شديدا حتى قال ابن كثير إنه "كاد أن يفني الناس من شدته"، وعاود الروم استغلال الكارثة فهاجموا أنطاكية.
ويذكر لنا المبرّد (ت 286هـ) -في كتابه ‘التعازي والمراثي‘- مقتطفاتٍ من فتك هذا الطاعون الجارف؛ فيقول: "هلك في ثلاثة أيام في كل يوم سبعون ألفاً. ومات لأنس بن مالك (ت 93هـ) فيه ثلاثة وثمانون ابناً...، ومات لعبد الرحمن بن أبي بكرة (ت 96هـ) أربعون ابناً...، وأخبِرتُ أن الدار كانت تصبح وفيها خمسون، وتصبح الغد وليس فيها واحد"!
وفي عام 85 ضرب طاعونٌ مصرَ فَفَرَّ واليها عبد العزيز بن مروان (ت 85هـ) إلى حلوان تاركًا الفسطاط وقاصدا الصحراء، ولكن الموت أدركه فمات في الصعيد؛ وفق ما يرويه ابن عبد الحكم (ت 257هـ) في ‘فتوح مصر وأخبارها‘. ثم أعقبه "طاعون الأشراف" عام 86هـ في البصرة وسُمِّي بذلك "لما مات فيه من الأشراف (= أعيان المجتمع)"؛ حسب النووي في ‘الأذكار‘. وكان الناس يتذمرون من اجتماع وطأة بلاء الوباء وقسوة حكم الحجاج (ت 95هـ)، فيقولون وفق رواية ابن تغري بردي في ‘النجوم الزاهرة‘: "لا يكون الطاعون والحجاج"!!
ثم أعقبه "طاعون الفتيات" عام 87هـ الذي انطلق من الشام إلى العراق، وسُمي بالفتيات لكونه بدأ بهن، وفيه كانت تهلك الأسرة فلا يبقى منها أحد؛ كما يذكر ابن أبي الدنيا في ‘الاعتبار‘. وكان الناس يحفرون فيه قبورهم بأنفسهم ليأسهم من النجاة، حتى إن التابعي بشير بن كعب بن أبي الحميري حفر قبرًا لنفسه وظل يقرأ فيه القرآن حتى مات ودُفن فيه؛ كما في ترجمته من ‘تاريخ دمشق‘.
إجراءات احترازية
وقد ألجأت موجات الطاعون المتكررة الخلفاء الأمويين وأبناءهم إلى "الحجر الطوعي" لأنفسهم، بمحاولتهم الابتعاد عن الناس ولو بالخروج من عاصمتهم دمشق إلى البادية حيث العزلة والهواء النقي، وأصبحوا معروفين بذلك حتى إن البلاذري يقول في ‘أنساب الأشراف‘: "وكان الخلفاء وأبناء الخلفاء من بني أمية يتبدَّوْن (= يقصدون البادية) ويهربون من الطاعون، فينزلون البرِّية خارجا عن الناس".
بل إن الخليفة هشام بن عبد الملك (ت 125هـ) حاول أن ينقل عاصمة الخلافة الأموية من دمشق إلى الرصافة هربًا من الطواعين؛ وفي ذلك يقول الطبري -في تاريخه- إن هشاماً عندما أراد أن يبني الرصافة ليسكنها بدلا من دمشق، قيل له: "لا تخرج، فإن الخلفاء لا يُطعَنون (= يصابون بالطاعون)، ولم نرَ خليفةً طُعن؛ فقال: أتريدون أن تجرّبوا بي؟! فنزل الرصافة".
واستمرت فورات الطاعون بين سنتيْ 114 و119هـ التي حصل فيها طاعون جارف بالبصرة. وفي عام 125هـ؛ وقع وباء في الشام فألجأ بيت الحُكم إلى أن يعقدوا بيعة الخلافة ليزيد بن الوليد (ت 126هـ) في البادية، ويقول الذهبي -في ‘السِّيَر‘- إنه "توفي يوم الأضحى بالطاعون". وتشير بعض المصادر -بينها ‘الكامل في التاريخ‘ لابن الأثير (ت 630هـ- إلى أن هذا الوباء مكث سبع سنين في الشام ومصر وشمال أفريقيا.
لقد عانت الخلافة الأموية موجات موت عاتية (6 طواعين جارفة و14 طاعونا أقل إفناء) أهلكت الحرث والنسل، وغيرت الخريطة الديموغرافية لسكان الحواضر والقرى لا سيما في العراق. فتحوّل سكان "سواد العراق" (= المناطق الزراعية بالجنوب) إلى الرعي بعد أن تفرقوا في البوادي وتركوا الزراعة والحواضر المعرَّضة للآفات، وانعكس هذا على الموارد الاقتصادية للدولة، ولم تغنِ محاولات الحجاج بن يوسف لإعادتهم قسرا وتوطينهم في قراهم.
فقد تراجعت مداخيل "سواد العراق" بنسبة 60% مقارنة بما كانت عليه في خلافة عمر بن الخطاب (ت 23هـ)، وهو -طبقا لما أحصاه عمر بن عبد العزيز ونقله عنه البلاذري في ‘فتوح البلدان‘- مئة مليون درهم، وأما ما جباه الحجاج بعد الطاعون فهو أربعون مليون درهم، بل ظل يتناقص حتى قال اليعقوبي (ت 284هـ) -في تاريخه- إن الحجاج مات وقد صار المبلغ "خمسة وعشرين ألف ألف درهم".
وقد أدت لاحقا سياساتُ الحجاج بشأن توطين الزنوج في "سواد العراق" إلى أحداث سياسية كبرى، مثل "ثورة الزنج" المدمِّرة التي استمرت 15 عامًا بين 255 و270هـ. أما على المستوى العسكري؛ فقد تراجع عدد الجند بشكل رهيب في سنوات الطواعين، وتقدر نسبة الجنود المثبتين في دواوين الجند بالعراق بـ10% فقط مما كانوا عليه في عهد معاوية؛ حسبما لاحظه الباحث أحمد العدوي. ومن هنا نفهم الأسباب التي اضطرت الدولة الأموية إلى التجنيد القسري للفلاحين ولأهل الذمة، كما يذكر بطريرك أنطاكية ديونيسيوس التلمحري (ت 230هـ) في كتابه ‘تاريخ الأزمان‘.
تحول تاريخي
لقد كانت مواتاة الزمان لبني العباس عجيبة؛ فقد طاوعت الظروف دولتهم الناشئة وأعانتها على القضاء على دولة عظيمة تمتد بين الصين والأندلس. وكما استغل المسلمون -بعد القادسية- "طاعون يزدجرد" فتعمّقوا في أراضي الدولة الساسانية، موسعين حدود دولتهم الجديدة على أنقاض مملكة الساسانيين؛ أسعف الزمان الثوار العباسيين حين اتفق لهم أن يأتي إعلان ثورتهم بين طاعونين رهيبين عصفا بخلافة بني أمية: "طاعون غُراب" -"وغراب رجل من [قبيلة] الرباب" كما يقول ابن العربي المالكي (ت 543هـ) في شرحه للموطأ- سنة 127هـ، وطاعون مسلم بن قتيبة سنة 131هـ.
وقد روى المدائني أنه في طاعون 131هـ كان يُحصى كل يوم في سكة المربد ألف جنازة، وأباد الطاعون سكان البصرة أو كاد يبيدهم؛ حسب ما يذكره ابن الملقِّن (ت 804هـ). وطبقا لرواية أوردها الطبري في تاريخه؛ فإن الأمويين استغلوا جائحة طاعون 131هـ فقتلوا بالسمّ إبراهيم الإمام بن محمد بن علي (جد خلفاء بني العباس) في سجنه عندهم بحرّان، ثم أعلنوا موته بهذا الطاعون. ونلاحظ عموما في عصر الأمويين أن الطواعين التي لم تبدأ من الشام كانت تنطلق من البصرة، وذلك لاتصالها بموانئ الهند والصين وما قد يصاحب السفن القادمة منهما من بضائع ملوثة وأشخاص ناقلين للأمراض.
ووفقاً لكتاب بعنوان "تاريخ الزوقنيني" منحول للبطريرك ديونيسيوس التلمحري؛ فقد سجل راهب "دير زقنين" في ديار بكر آثار طاعون سنة 132هـ على الدولة الأموية، فوصف -بجُمل مختصرة- الصراع السياسي الدائر حينها والذي كانت تصله أخباره، متحدثا عن "الكارثة التي أحالت المدن إلى معصرة غاصّة بالأرجل، تفري ساكنيها دونما رحمة أو شفقة كأنهم العنب اللذيذ...، يُدفن في النعش الواحد جثتان أو ثلاثة أو أربعة أطفال...، الجثث في كل مكان على الأرصفة والطرقات"؛ ثم يختم بجملة معبّرة تقول إنه رغم كل ذلك: "لم يكفّ العرب أبدًا عن الشجار وتبادل الأذى"!!
لم تؤد الطواعين إلى زوالِ دولٍ فحسب، وإنما قطعت أيضا نسل شخصيات مركزية في حركة فتوح الإسلام؛ فالمؤرخ النسابة ابن حزم الأندلسي (ت 456هـ) يفيدنا -في ‘جمهرة أنساب العرب‘- بأنه "كثُر وَلَدُ (= أولاد) خالد بن الوليد (ت 21هـ) حتى بلغوا نحو أربعين رجلا، وكانوا كلهم بالشام، ثم انقرضوا كلهم -في طاعون وقع- فلم يبق لأحد منهم عَقِبٌ"!
وبقيت فورات الطواعين تتكرر حتى سنة 136هـ عندما توقفت في أوائل خلافة المنصور العباسي (ت 158هـ)، فكان المنصور يمتنّ على الناس بأن رفع الله عنهم الطواعين بسبب بركة خلافة أهل بيته؛ فقد جاء عند الثعالبي: "قال المنصور يوما لأبي بكر بن عياش (ت 193هـ): من بركتنا أن رُفِع عنكم الطاعون! فقال (ابن عياش): لم يكن الله ليجمعكم علينا والطاعون"! وما رفض الإمام ابن عياش التصديق به يبدو أنه وجد رواجا عند الجاحظ (ت 255هـ)، فقال -في ‘رسالة الحنين إلى الأوطان‘- إن العباسيين: "كان أول بركتهم أن الله تعالى رفع الطواعين والموتان الجارف، فإنهم كانوا يُحصدون حصدا بعد حصد"!!
طواعين عباسية
قلّ الطاعون إذن في بداية عهد بني العباس فأتاح لهم ذلك -ضمن عوامل أخرى- توطيد خلافتهم. لكن الطواعين ظلت متواصلة وإن بوتيرة أبطأ؛ ومن أهمها طاعون عجيب وقع عام 346هـ فكثر فيه الموت بالفجأة، حتى إن أحد القضاة لبس ثيابه ليخرج إلى مجلس القضاء فأصيب بالطاعون فمات وهو يلبس أحد خُفّيْه؛ حسب ابن حجر في ‘بذل الماعون‘. ووقع طاعون سنة 452هـ في الحجاز واليمن حتى خربت قرى كثيرة فلم تعمر بعد ذلك، وصار من يدخلها يهلك من ساعته!
ونقل ابن الجوزي (ت 597هـ) -في ‘المنتظم‘ ضمن حوادث عام 449هـ- ورود كتاب/رسالة من مدينة بخارى (تقع اليوم بدولة أوزبكستان) بأخبار طاعون مات فيه 1.6 مليون نسمة حتى لحظة كتابة ذلك الكتاب!! ثم انتقل إلى أذربيجان وفارس والعراق، فكانوا يدفنون الناس في مقابر جماعية. وكانت أعراضه غريبة؛ إذ يخرج من فم المصاب به قِطع دم أو دود فيموت. وكان الأطفال والنساء والشباب يموتون فيه دون الشيوخ، ولم يمت من العساكر والشيوخ إلا القليل!! حسب قول ابن حجر في ‘بذل الماعون‘.
ويروي سبط ابن الجوزي (ت 654هـ) -في ‘مرآة الزمان‘- أن الطاعون دخل دمشق سنة 469هـ وكان فيها نحو خمسمئة ألف شخص، فلم يبق منهم سوى ثلاثة آلاف، وكان من جملتهم 240 خبازًا فبقي منهم اثنان فقط!! وفي 478هـ وقع طاعون في العراق ثم عمّ الدنيا، حتى كان أهل الدرب (= حي سكني له منفذ واحد) يموتون فيُسَدّ الدرب عليهم!!
بعد تراجع وتيرة حدوث الطواعين في القرون الأولى من خلافة بني العباس؛ عاد لها نشاطها المكثف في العهد المملوكي بالشام ومصر والحجاز، فكانت تتكرر بمعدل طاعون كل 17 عامًا. ويبدو للمتتبع لطواعين العصر الوسيط أن حلب والإسكندرية كانتا بؤرتيْن لانتشار الأوبئة والطواعين، ولعل مردّ ذلك المكانة المركزية التي تبوأتها المدينتان في التجارة الدولية، وخاصة مع الأوروبيين. فقد كانت حلب مركزًا لطواعين أعوام: 787، 826، 841هـ، والإسكندرية بؤرة لطواعين أعوام: 782 و788 و790 و873هـ؛ حسبما جاء في رسالة دكتوراه للباحث بلقاسم الطبابي بعنوان ‘الموت بمصر والشام في العهد المملوكي‘.
وهذا المؤرخ والشاعر ابن الوردي (ت 749هـ) يصف -في رسالته ‘النبا عن الوبا‘- طاعون 749هـ الذي قضى فيه نحبه، ويرسم لنا خريطة حركة الوباء؛ فنجد أنه ينتقل مع خطوط التجارة في البحر والبر، ويذكر تخطّي الطاعون لمعرة النعمان التي كان يسكنها هو، فيقول: "ثم دخل معرة النعمان فقال لها: أنت مني في أمان، حماة تكفي في تعذيبك، فلا حاجة لي بك:
وما الذي يصنع الطاعونُ في بلد ** في كل يوم له بالظلم طاعون"؟! فما أحرى شعوب العرب المنكوبة اليوم أن تردد هذا البيت في مواجهة طاعون كورونا وطاغوت السلاطين!
كما يصف ابن الوردي العلاجات المتخذة لمواجهة هذا الوباء، ومنها: الطين الأرمني، وتبخير البيوت بالعنبر والكافور والصندل، والتختم بالياقوت، وأكل البقل والخل والطحينة، والإقلال من الأمراق والفاكهة. ثم وقع الطاعون الأسود عام 833هـ الذي كان ابن حجر شاهد عِيان عليه، فوصفه -في ‘بذل الماعون‘- بأنه "أوسع من هذه الطواعين كلها وأفظعها، ولم يقع بالقاهرة ومصر -بعد الطاعون العام الذي كان في سنة تسع وأربعين وسبعمئة- نظيرُ هذا الطاعون".
ويسجل لنا ابن حجر -وهو الخبير بالطواعين لكثرة ما شاهده منها وعاناه من مصائبها في أهل بيته- أن طاعون عام 833هـ كان مباينًا لما قبله من الطواعين في أشياء كثيرة؛ منها التوقيت حيث "وقع في الشتاء وارتفع في فصل الربيع، وكانت الطواعين تقع في فصل الربيع وترتفع في أوائل الصيف"؛ ومنها أن "غالب من كان يموت بالطاعون يغيب عقله، وهذا يموت المطعون وهو يعقل"!
أطباء وفقهاء
سيجد الناظر في الكتب التي دُوّنت عن الطواعين تخبطًا ظاهرًا في تشخيصه والتماس علاجه، كما سيجد لدى بعض الفقهاء إعراضًا عما يقوله الأطباء. وأنت إذا نظرت إلى أقوالهم -وأنت متفرّق الرأي- أشكلت عليك مآخذهم، واتهمتهم بالجمود والجهل، لا سيما حين يذهب بعضهم إلى إنكار العدوى التي صارت اليوم من الحقائق العلمية الثابتة، وسأوقفك على أسباب ذلك بإذن الله.
مع تتابع موجات الطاعون والأوبئة عبر العصور؛ حاول الأطباء أن يجدوا تشخيصًا دقيقًا له والوقوف على أسبابه، فوجدنا ابن سينا وابن النفيس (ت 687هـ) يرجعانه إلى "فساد في الهواء". يقول ابن النفيس فيما يعزوه إليه ابن حجر في ‘بذل الماعون‘: "الوباء ينشأ عن فساد في جوهر الهواء بأسباب خبيثة سماوية أو أرضية، كالشهب والرجوم في آخر الصيف، والماء الآسن والجيف الكثيرة، ولذلك بادروا إلى استصلاح الهواء" أي تطهيره وتنظيفه.
وبهذا يستهلّ الطبيب الأندلسي محمد الشقوري (ت 776هـ) كتابه عن الوباء بفصل يتناول "إصلاح الهواء"؛ فيقول فيه: "يكون استصلاحه بتبخيره لقطع تلك الأبخرة الفاسدة -بالمرّ والمُصْطكَى والسندروس والكندر والميعة- في الأجواء الباردة والضباب. أما في الحر والصفاء والأماكن الجافة؛ فالورد والصندل والكافور والعود الهندي" هي التي يبخّر بها الهواء لاستصلاحه. ولعل فكرة استصلاح الهواء بالبخور قريبة الشبه بما نراه اليوم من تعقيم الدول لشوارع مدنها وساحاتها العامة برش المبيدات والمعقمات، بقصد مكافحة فيروس كورونا ونحوه.
كما اعتمدوا على وصف بعض المطعومات كنوع من التداوي فوصفوا للمرضى "اللحوم البيضاء من الطيور، وخَلّ التفاح والسُّماق وخل الليمون، وأما الحِصرم فغاية في هذا الباب...، ومن صنع من التفاح الحامض والحِصرم مُربى ولعق منه في الغدوات فنعم الدواء"؛ كما يقول الشقوري.
وكان ابن سينا يقول بوجوب فصد المطعون، وقد لاحظ زكريا الأنصاري (ت 926هـ) -في ‘تحفة الراغبين في بيان أمر الطواعين‘ (مخطوط)- هجر الأطباء لهذه المنهجية؛ فقال: "قد أغفل الأطباء -في عصرنا وما قبله- هذا التدبير، فوقع التفريط الشديد من تواطئهم على عدم التعرض لصاحب الطاعون بإخراج الدم، حتى شاع ذلك فيهم وذاع؛ حيث صارت عامتهم تعتقد بتحريم ذلك، وهذا النقل عن رئيسهم"!
ولكن ترك الأطباء منهجية التطبيب المأثورة عن "رئيسهم" ابن سينا لا ينبغي أن يفهم على أنه تفريط، كما وقع في ذهن الأنصاري الفقيه فتعجّب منه؛ بل نرجّح أن تركهم له لقلة فائدته وانعدام جدواه، التي جعل توهّمُها أطباءَ أمير العراق الأموي زياد بن أبيه يشيرون عليه لمّا أصاب الطاعون يده بقطعها؛ حسبما يحكيه الطبري.
تدابير قاصرة
والحاصل أن كل هذه العلاجات كانت رميًا في عماية، ولم تمنح المرضى شفاءً ولا عافية. وهي منحصرة في: الفصد والاستفراغ، وتقوية القلب بالتبريد والتعطير، وملازمة السكون والدعة لتسكين "هيجان الأخلاط". ولما بان عجز الأطباء عن التعامل مع هذه الظاهرة الطبيّة؛ سلّم حذاقهم أنه لا دواء لها ولا دافع لها إلا الذي خلقها وقدرها؛ طبقا لما أورده السيوطي (ت 911هـ) في كتابه ‘ما رواه الواعون في أخبار الطاعون‘ ونسبه إلى ابن القيم (ت 751هـ) في ‘زاد المعاد‘.
وقد لاحظ السيوطي عبثيّة هذه الإجراءات؛ فقال كما نقله عنه مرعي الكرمي الحنبلي (ت 1033هـ) في كتابه ‘تحقيق الظنون بأخبار الطاعون‘: "أكثرَ الناسُ في الطاعون من أشياء لا تغنيهم وأمور لا تعنيهم...، ولم أعوّل على ذكر شيء مما ذكر الأطباء فيما يستعمل أيام الطاعون، لأنه شيء لا فائدة فيه، وهم إنما بنوْا ما ذكروه على ما قرروه من أن الطاعون ناشئ عن فساد الهواء، وقد تبين فساد ما قالوه".
بل إن بعض الفقهاء كانوا أشدّ لهجة من ذلك مع الأطباء؛ فلم يعذروهم باستفراغهم وسعهم بل رموهم بالجهل، كما نجد عند أبي المظفر السُّرَّمَرِّي (ت 776هـ) في كتاب ‘ذِكْر الوباء والطاعون‘، حيث يصفهم بـ"الجهال المنتسبين إلى العلم وليسوا من أهله"، وينقل عن فقهاء المغرب إلحاقهم أهل الطب بالجاهلية بحديثهم عن "مذهب أهل الطب والجاهليّة"!!
فلما استيأس الفقهاء من صناعة أهل الطب خَلَصوا نَجِيًا، وجعلوا من نصوص الشرع ملجأهم في التعويل على فهم هذه الظاهرة، وتقيّدوا بالفهم الحرفي للنصوص في غالب أحوالهم. وعلى هذا الأساس تمسكوا بالأحاديث الواردة في الطاعون فلم يفرّوا منه.
ولتواضع المعلومات الطبيّة لم تتفتح لهم مقاصد "الحجر الصحي"؛ حتى إن ابن عبد البر (ت 463هـ) يقول فيما نقله عنه ابن حجر في ‘بذل الماعون‘: "لم يبلغني أن أحدا من أهل العلم فَرّ من الطاعون، إلا ما ذكره المدائني [من] أن علي بن زيد بن جدعان هرب من الطاعون إلى السيالة يعني من البصرة...، فكان إذا جمّع (= صلى الجمعة) صاحوا به [موبِّخين]: فَرّ من الطاعون"!!
ولعل أدق ما ورد في التقاط دلالة الحديث ومقصده هو ما فعله عمرو بن العاص (ت 43هـ) عندما أمر الناس -وكان أميرا عليهم- بالتفرّق في الجبال حين وقع طاعون عمواس بالشام، فنجا ونجا الناس معه. فقد روى الطبري -في ‘تهذيب الآثار‘- أن عَمْراً خطب في الناس فقال: "تفرقوا من هذا الرجز في الشعاب والأودية ورؤوس الجبال"، فتفرقهم في الجبال جماعات صغيرة يحد من انتشار المرض بينهم، ويمنع انتقال العدوى للمناطق الأخرى. ونقل القاضي عياض -في شرحه لصحيح مسلم- أن مسروق بن الأجدع (ت 63هـ) والأسود بن هلال (ت 84هـ) -وهما من أئمة التابعين- كانا يريان جواز الفرار من الطاعون.
عوز علمي
أما ما وقع منهم من خلاف في وقوع العدوى، فمرده إلى التقصير في الجمع بين الأدلة والأحاديث الواردة عن النبي (ص) في توقي المرض والمرضى، وحملهم حديث "لا عدوى" على ظاهره، وإهمال الأحاديث الأخرى الواضحة الدلالة على هذا المعنى. وقد كان سلفَهم في هذا الفهم أبو عبيد القاسم بن سلام (ت 157هـ)؛ حسب تتبع ابن حجر في ‘بذل الماعون‘. بيد أننا لا يمكن أن نرد هذا الخلاف إلى الجمود والظاهرية بدون الإشارة إلى تواضع حجم المعلومات الطبية الصحيحة في تلك الأعصر.
ولإيضاح هذه النقطة؛ نعرض لنموذج ابن حجر باعتباره أحد الأعلام في الفقه الإسلامي الذين نفوا وقوع العدوى. وبفهمنا لخلفيّات قوله يتضح لنا ما قررناه من إعادة الخلاف إلى تواضع المعلومات الطبية المتوفرة لديهم في زمانهم. فابن حجر يورد -في ‘بذل الماعون‘- نصَّ تاج الدين السبكي (ت 771هـ) في إثبات العدوى، وهو "قوله (= السبكي) في ذلك: إن شهد طبيبان عارفان مسلمان عدلان أن ذلك -يعني مخالطة الصحيح للمريض- سبب في أذى المخالط؛ فالامتناع عن المخالطة جائز أو أبلغ من ذلك".
ثم يبادر ردًا عليه بقوله: "لا تـُقبل شهادة من يشهد بذلك لأنّ الحس يكذبه، فهذه الطواعين قد تكرر وجودها في الديار المصرية والشامية، وقلّ أن يخلوَ بيت منها، ويوجد [بقُرب] من أصيب بهـ[ـا] من يقوم عليه من أهله وخاصته، ومخالطتهم له أشد من مخالطة الأجانب قطعًا، والكثير منهم -بل الأكثر- سالم من ذلك؛ فمن شهد بأن ذلك سبب في أذى المخالط فهو مكابر".
فابن حجر يستدل بتكذيب الحس لانتقال الطاعون بالعادة كما يقول السبكي، لأن معنى انتقالها بالعادة ألا يقع انخرامٌ لهذه العادة، فكل من قارب مريضًا بمرض معدٍ لزم أن ينتقل إليه المرض. وقد كانت تجربة ابن حجر الشخصية أكبر شاهد على عدم اطّراد هذا القانون؛ فقد توفيت ابنتاه عالية وفاطمة في طاعون وقع بمصر عام 819هـ، وفقد ابنته الكبرى خاتون في طاعون عام 833هـ ومع قيامه عليهن ومخالطته لهن لم يصبه الطاعون، فثبت عنده بالتجربة انتفاء العدوى. والذي لم يلحظه ابن حجر -لشح المعلومات الطبيّة في أيامه- هو أن انتقال العدوى لا يتعلق بمخالطة المريض فحسب، وإنما أيضا بدرجة مناعة الشخص الصحيح المخالط له، وكذلك نوعية المرض المعدي وكيفية انتقاله.
وربما كان تقدم الوضع الطبي في الأندلس معينًا أكثر على حسم المسألة عند فقهائها؛ فهذا لسان الدين ابن الخطيب (ت 776هـ) يشن الغارة على منكري العدوى في رسالته المسماة ‘مقنعة السائل عن المرض الهائل‘، ففيها يقول: "قد ثبت وجود العدوى بالتجربة والاستقراء والحس والمشاهدة والأخبار المتواترة، وهذه مواد البرهان. ووقوع المرض في الدار والمحلة والثوب والآنية، حتى القرط أتلف من علق بأذنه وأباد البيت بأسره...، وارتكاب اللجاج فيه ألحم في الناس سيف الطاعون، وسلط الله عليهم من بعض المفتين من اعترضهم بالفتيا اعتراض الأزارقة من الخوارج للناس بالسيوف، فسالت على شبا أقلامهم من النفوس والمُهَج ما لا يعلمه إلا من كَتَبَ الفناءَ عليهم...؛ وبالجملة فالتصامُمُ عن مثل هذا الاستدلال زعارة وتصافر (= جرأة) على الله، واسترخاص لنفوس المسملين".
وعلى أية حال؛ فقد كان المسلمون سابقين لغيرهم في تقرير أمر العدوى، فالطبيب الإيطالي جيرولامو فراكاستورو (ت 1553م) الذي يعدّ مؤسسا للمدرسة الغربية القائلة بحدوث العدوى بوصفه أول من قال بذلك أوروبيًا، ألّف كتابه "De Contagione et Contagiosis Morbis" -الصادر بمدينة البندقية عام 1546م- بعد ظهور رسالتيْ ابن خاتمة الأنصاري (ت 770هـ) وابن الخطيب عن الطاعون وإثباتهما العدوى به بنحو مئتي سنة تقريبا، وبعد فتوى السبكي بنحو قرن؛ حسب ما توصل إليه أحمد العدوي.
سلوكيات ومنافع
يحكي لنا السبكي -في ‘جلب النعمة ودفع النقمة‘- عن تبخير الناس للمدينة التي يسكنونها إذا أصابها الطاعون أو الوباء، عملًا بتوصيات الأطباء. فقد كان المسجد المعروف بالتنور على جبل المقطم يوقَد عليه بالطرفاء واللبان والمندروس "ليدفع عن أهل مصر الوباء". كما كانت الناس تحاول تجنب الأماكن المكتظة في المدينة وتقصد المناطق المفتوحة، كخروج أهل القاهرة إلى جزيرة الروضة. ولم يكن الأمر مقصورًا على الشعب فحسب؛ بل كان عادة للسلطان أيضًا الذي كان يغادر قلعة الجبل ويفضل الإقامة في سرياقوس، ومكث هناك أشهرا كانت هي ذروة نشاط الطاعون؛ كما يقول ابن تغري بردي.
ويشير السبكي -حسبما جاء في رسالة بلقاسم الطبابي- إلى ابتعاد العامة ومحافظتهم على "المسافة الاجتماعية" (SOCIAL DISTANCE) أوقات الطواعين والأوبئة، حتى إنهم تركوا زيارة المطعون، بل أصبح بعضهم يتمارض حتى لا يشهد الجنائز. ومن طريف ما وقفنا عليه من قصص ذلك؛ أن السخاوي (ت 902هـ) ترجم -في ‘الضوء اللامع‘- لأحد وجهاء المجتمع اسمه حسين بن محمد ابن قاريلوك، فقال إنه اعتزل الناس داخل بستان له في "فم الخور" هربًا من العدوى، ولم يخرجه خبر وفاة زوجته عن "حجره الصحي" الطوعي، و"ماتت فلم يجئ لشهود الصلاة عليها خوفًا من العدوى"!!
وقد حصد الطاعون العام الذي وقع في 749هـ أكثر المزارعين قبل أن يتسنى لهم حصد مزروعاتهم، فلما جاء وقت الحصاد خرج العسكر بغلمانهم إليه؛ حسبما نقله الطبابي عن ‘النجوم الزاهرة‘. ويشير الباحث الفرنسي جون نويل بربان -في كتابه ‘الطاعون‘ (La peste)- إلى هلاك 40 قرية مصرية من مجموع 2200 قرية. وفي طاعون 795هـ بالشام "خلت مدينة حلب وبلادها"، وفي طاعون 826هـ خربت في بلاد الشام قريات كثيرة.
لا تمرّ أي كارثة دون مستفيدين كما يقرر ذلك أبو الطيب المتنبي: "مصائب قوم عند قومٍ فوائدٌ"! وفي صدارة المستفيدين الذين روت لنا كتب التاريخ انتفاعهم في أزمات الطواعين والأوبئة: الجنائزيون! ففي ‘تتمة المختصر في أخبار البشر‘ لابن الوردي أن الجنائزيين كانوا أيام أحد الطواعين "يلعبون ويتقاعدون عن الزبون" لوفرة الطلب عليهم!
كما انتعشت مهنة القراءة على الجنائز فصار القارئ يأخذ عشرة دراهم، وكذلك بورك في أرزاق الحمّالين حتى صار الحمال يأخذ ستة دراهم، وصارت أجرة حفاري القبور خمسين درهما للقبر الواحد؛ حسبما جاء في ‘النجوم الزاهرة‘. ولعل من أغرب صنوف الاستفادة ما يذكره المؤرخون -وخاصة ابن شاهين الملطي (ت 920هـ) في ‘نيل الأمل في ذيل الدول‘- عن استغلال السلاطين للطواعين، للاستيلاء على أموال المتوفين الذين لا وارث لهم وإيداعها في صندوق مالي خاص بذلك يسمى "الديوان الحشري"!
وكما يستفيد الصيادلة اليوم من بيع الكمامات ومواد التعقيم؛ فقد كان القائمون على بيع المواد الموصوفة أدويةً للطاعون يلاقون رواجًا لتجارتهم، فترتفع أسعار السكر والخيار والبطيخ والدجاج الذي ينصح به الأطباء؛ كما ترتفع مواد التعطير والتطيّب -مثل الكافور والسدر والقطن- المستخدمة في تحنيط الموتى. ومع زيادة الطلب على اليد العاملة تزداد أجورها؛ فيصير لراوية المياه ثمانية دراهم، ولأجرة الطحن خمسة عشر درهما، بسبب قلة الحيوانات والبشر.
للإشتراك في قناة ( اليوم برس ) على التلغرام على الرابط
https://telegram.me/alyompress
اقرأ ايضا :
اضف تعليقك على الفيس بوك