كلما كان عبد الملك الحوثي يوغل في استدعاء وخلق مناسبات احتفائية إحيائية طائفية لتقوية نفوذه، كان يبتعد عن اليمن كهوية وطنية جامعة، ويتقوقع هو كتعبير مذهبي نقيض لها. لهذا يواجه وجماعته هذا المأزق الحاصل اليوم في إب، وسيواجه المأزق ذاته في بقية اليمن؛ ذلك أنه بنى وكرس وجوده على استنهاض الطائفية وجعلها أداة تحشيد وفرز في البلاد.
أحيا الحوثي الاحتفاء بـ "يوم الغدير" و"المولد النبوي"، ونقل هاتين المناسبتين من فضائهما المجتمعي إلى الفضاء السياسي، عبر استخدامه وتوظيفه لهما. لهذا، تحول الاحتفال بهاتين المناسبتين من طقوس مجتمعية إلى ممارسات طائفية؛ إذ تم استدعاء هاتين المناسبتين لتوظيفهما سياسياً ضمن أدوات التحشيد والفرز المذهبية.
كان المجتمع اليمني في شمال الشمال يحتفل بهاتين المناسبتين عبر لقاءات عامة عفوية ذات صبغة اجتماعية. إلا أن عبد الملك الحوثي نقلهما من مستواهما الاجتماعي إلى المجال السياسي. لهذا، أصبحت هاتان المناسبتان تحضران في الذهنية اليمنية العامة كتعبيرات طائفية.
ما بعد حروب صعدة الست، عمل الحوثي على إحياء طقوس ومناسبات طائفية، وذهب نحو اختلاق أخرى. تم ذلك بهدف خلق تقويم زمني طائفي خاص بجماعته، يعمل على جعلها مركز استقطاب مذهبي، ويربط أفرادها بطقوس روحية مُلهمة تمنح الجماعة زخماً وتضفي على قيادتها حالة من القداسة؛ كما لاحظ ذلك الزميل علوي السقاف.
أعاد الحوثي الاحتفاء بـ "يوم الغدير"، الذي تم إيقاف الاحتفال به بعد ثورة 26 سبتمبر 1962 مباشرة؛ كون النظام الإمامي كان يستخدم هذه الاحتفال سياسياً لتأكيد حقه في الحكم، وهو ما يفعله الحوثي اليوم.
تم تحويل ذكرى مقتل الحسين، وذكرى ولادة الإمام الهادي، إلى احتفائيتين عامتين. سنوياً، تحتفي جماعة الحوثي بـ "يوم الشهيد". ومؤخراً، اختلقت الجماعة مناسبة طقوسية جديدة، حيث احتفلت، قبل أيام، بالذكرى السنوية لوفاة "العلامة الرباني بدر الدين الحوثي"، والد مؤسس الجماعة، ووالد قائدها الحالي. وإذا أضفنا إلى ذلك احتفال الجماعة سنوياً بذكرى مقتل حسين الحوثي، يبدو الأمر وكأن الجماعة تُكرس عائلة الحوثي كـ "عائلة مقدسة" داخل بنية الوعي الطائفي الذي تتحرك فيه.
عملت هذه الطقوس كأدوات تحشيد جيدة وسعت حضور جماعة الحوثي وعززت من قوتها ونفوذها داخل محيطها الجغرافي المذهبي. إلا أن الطقوس الاحتفائية الطائفية بقدر ما كانت تمنح الجماعة قوة توسع إضافية، كانت تعزلها وطنياً. من هنا يُمكن أن نفهم حالة الرفض الحاصلة في إب لمسلحي الحوثي.
طيلة الفترة الماضية، كان الحوثي يبني حضور جماعته في المجال والوعي الوطني كـ "آخر". اليوم، ينتقل الحوثي طوراً آخر؛ إذ ينقل جماعته من "آخر" إلى "عدو" و"محتل داخلي".
لقد نزل مسلحوه إلى إب كمليشيا سيطرة وغلبة طائفية، وليس حتى كمليشيا سيطرة مسلحة خارجة عن القانون. وهذا جعل أهالي إب، والحديدة، يدخلون في تجربة مباشرة مع مرارة الشعور بإهانة الكبرياء الوطني كيمنيين، الذي ذاقوه عن بعد عند سيطرة الجماعة على العاصمة صنعاء.
انطلاقاً من هذا، تعامل أهالي إب مع مسلحي الحوثي كـ "آخر"، أو كـ "غريب" اقتحم منزلاً خاصاً، أو أرضاً خاصة. وهذا أمر مفهوم؛ لأن جماعة الحوثي كرست حضورها في الذهنية العامة كهوية طائفية متعالية على الهوية الوطنية والهويات الأخرى في البلاد. الأمر ذاته حاضر لدى أهالي الحديدة، وسيحضر لدى بقية سكان المدن اليمنية.
لم يراعِ الحوثي هذه الحساسيات، وغامر بالذهاب إلى إب والحديدة. وهو الآن يرفض التراجع عن هذه الخطوة، ويظهر كما لو أنه وضع نفسه في لعبة قمار. ولأن الحوثي يريد الحفاظ على صورة جماعته كمليشيا "لا تعرف الهزيمة"، يعتبر انسحابه من الحديدة وإب وكأنه "هزيمة" معيبة وغير لائقة. ويُعلمنا التاريخ أن الجماعات المسلحة تبدأ مسيرة التراجع والهزائم عندما تتورط في حراسة صورتها العامة؛ لأنها تذهب، في سبيل ذلك، إلى معارك خاسرة مسبقاً.
قد ينتصر الحوثي في المواجهات الدائرة حالياً في إب؛ لكن الثمن سيكون فادحاً على جماعته وعلى اليمن، بشكل عام. وإلى هذا، فأي "انتصار" هناك سيكون "انتصاراً" موهوماً، ولن يفعل شيئاً غير تعزيز حضور الحوثي وجماعته في الذهنية الوطنية كـ "عدو" لبقية اليمن. وحتى لو استطاع الحوثي فرض بقاء مسلحيه في إب، فسيبقون لا كـ "آخر"، بل كـ "عدو".
...
المواجهات التي جرت طبيعية ومتوقعة؛ لأن الحساسية الطائفية عالية، ونزول مليشيا الحوثي إلى إب للسيطرة عليها يجعل هذه الحساسية تعبر عن نفسها على شكل اشتباكات وأعمال عنف.
ولأن جماعة الحوثي تتحمل مسؤولية ما يجري في إب (المسؤولية الأكبر يتحملها الرئيس هادي)؛ يتوجب عليها سحب مليشياتها من هناك دون إبطاء.
استمرار بقاء مسلحي الجماعة في الحديدة وإب مجرد مقامرة غير محسوبة العواقب.
وبدلاً من الاحتفاء بـ "نشوة نصر" السيطرة السهلة على العاصمة صنعاء، والحديدة وذمار وحجة، يتوجب على جماعة الحوثي التفكير بما بعد هذه السيطرة السهلة، وحساب الكلفة التي سيدفعها اليمن جراء تحول الطائفية إلى مشاعر في الوعي المضمر الخاص إلى ساحات حروب وأعمال عنف وجرائم قتل.
...
قاتل تجمع الإصلاح جماعة الحوثي في عمران، أرحب، والجوف، تحت ظل هويته المذهبية الخاصة، وصوته المذهبي والسياسي الخاص، ودفاعاً عن مصالح أفراده ومراكز القوى المرتبطة به. اليوم الوضع مختلف؛ الإصلاحيون يُقاتلون مسلحي الحوثي في إب تحت صوت أكبر وهوية أوسع: إب.
من غير المجدي لجماعة الحوثي توظيف الإرهاب في معركتها الحالية في إب. ولا معنى لحصر الجماعة قتالها الجاري في إب باعتباره قتالاً مع "الدواعش" و"التكفيريين"؛ ذلك أن أفراد تجمع الإصلاح الذين يُقاتلون الجماعة اليوم في إب يتجلون في مجتمعهم المحلي كـ "أبطال".
لكن من المهم أن لا يتورط الإصلاح في قيادة المواجهات مع الحوثي في إب، وعليه أن يبقى كأحد تعبيرات الغضب الشعبية هناك لا اختزالاً له أو تعبيراً عنه.
جماعة الحوثي منظمة، ولديها قدرة على تمويل حروبها القائمة على أكثر من جبهة؛ إب، يريم، ورداع. بالمقابل، يفتقد رجال قبائل إب للمال اللازم لتمويل المواجهات، كما يفقدون ميزة التنظيم والخبرة القتالية. وهذا يجعل كفة الغلبة تميل نحو طرف بعينه، غير أنه ليس في الحروب الطائفية طرف منتصر وآخر مهزوم على طول الخط.
* عن صفحة الصحفي - نائف حسان
للإشتراك في قناة ( اليوم برس ) على التلغرام على الرابط
https://telegram.me/alyompress
اقرأ ايضا :
اضف تعليقك على الفيس بوك