ربما كان قرار التجمع اليمني للإصلاح بعدم خوض المعركة العسكرية مع الحوثيين حين كانوا يتقدمون باتجاه صنعاء صائبا وحكيما، ولا سيما أن هناك من كان يريد ضرب الطرفين بعضهما ببعض كي يضعفهما معا، لتتقدم جماعة صالح وتتسيد المشهد من جديد كجزء من مخططات الثورة المضادة في دول الربيع العربي.
لم يكن بوسع الإصلاح في ظل ما يعانيه من حصار أن يواجه قوة الحوثيين العسكرية، مما جعل عدم خوض المعركة هو الخيار الأكثر صوابا، وعموما فإن الانسحاب قد يكون هو القرار الصائب في بعض الأحيان كما فعل خالد بن الوليد بجيش مؤتة بسبب خلل ميزان القوى مع جيش الروم، ولأن الرسالة السياسية التي أرادها النبي -عليه الصلاة والسلام- من المعركة ممثلة في تأكيد صعود القوة الدولية الجديدة القادرة على تحدي الإمبراطورية الكبرى قد وصلت للجميع.
على أن الموقف -عودة إلى اليمن- ما لبث أن دخل في مغامرة سياسية بائسة بعد ذلك، مردها سوء تقدير الموقف بكل أبعاده، والمغامرة التي نعنيها هي فتح حوار مع الحوثيين نزلت عليهم بردا وسلاما في وقت كانوا يعانون فيه من ثقل الانتصار الذي حققوه، وحيرتهم في كيفية تدبير الموقف بعد ذلك.
في البعد الداخلي لا خلاف على أن اليمن لاعتبارات كثيرة لا يمكنه تدبير أموره بنفسه، ولا بد من مساعدات خارجية، وإذا قيل إن لديه من الإمكانات ما يكفيه لو أدير بشكل صائب -وهذا صحيح- فإن الإدارة الصائبة لن تتم عن طريق جحافل الحوثيين بكل تأكيد، وسيحتاج ترميم الوضع إلى قيادة واعية وسنوات وربما عقود طويلة.
الذي لا يمكن لعاقل أن يماري فيه هو أن معركة الحوثيين كانت استجابة لأوامر خارجية من مرجعيتهم الإيرانية، وهي استجابة لحاجة إيرانية أكثر منها استجابة لحاجة تخص الحوثيين أنفسهم، فإيران التي تريد الحفاظ على بشار الأسد كانت تريد مساومة السعودية من خلال اليمن، فأوعزت إلى الحوثيين إشعال المعركة، وتزامن ذلك مع حاجة (المخلوع) لاستعادة بعض وضعه والانتقام من خصومه، فيما سكت “الأشقاء العرب” على أمل أن تؤدي المعركة إلى شطب الإصلاح كعنوان مهم من عناوين الثورة، وكجزء من تيار الإسلام السياسي الذي يعتبرون الحرب عليه أولويتهم قبل مواجهة إيران.
غير أن إيران التي تتخبط منذ قرارها الأسوأ في تاريخها بعد الثورة بدعم بشار الأسد ما زالت مثل مقامر يخسر، لكنه يتشبث بالطاولة أكثر فأكثر، وهي -أي إيران- تمارس سياسة الهروب إلى الأمام، ولا سيما أن المحافظين يرون نهايتهم بنهاية بشار وفشل مشروع التمدد الذي ناضلوا من أجله ثلاثة عقود، وكلف الشعب الإيراني الكثير الكثير.
والنتيجة أن انتصار الحوثيين كان مكلفا إلى حد كبير، أعني لجهة الحفاظ عليه منهم ومن إيران، وكان سوء الطالع هنا أن تزامن ذلك مع تدهور أسعار النفط، وانفتاح جبهة العراق على مصراعيها، وهو الذي كان يساعد على تحمل بعض تكلفة الحرب في سوريا، والنتيجة هي عدم قدرة إيران على دفع تكلفة الحفاظ على الانتصار، فضلا عن مساعدتهم على إدارة الدولة اليمنية (قلصت الدعم عن جميع القوى التي تتبناها، بما فيها حزب الله)، ولا ننسى أن لدى الحوثيين عشرات الآلاف من المتفرغين الذين لم يعملوا منذ فترة طويلة.
من هنا أراد الحوثيون أن يلعبوا اللعبة بطريقة مختلفة، خلاصتها أن يسيطروا على الدولة من دون أن يدفعوا تكلفة إدارتها، ربما قريبا من نموذج حزب الله، وهذا هو السبب مثلا في عدم تدخلهم المباشر في البنك المركزي رغم سيطرتهم الفعلية عليه.
أما الجانب الآخر في التكلفة الصعبة لانتصارهم فيتمثل في ما توقعناه منذ اليوم الأول، ممثلا في أن الإهانة التي وجههوها للشعب اليمني ستمنح من جديد حاضنة للقاعدة، تماما كما حصل مع تنظيم الدولة في العراق عندما أدار المالكي ظهره للمنخرطين في العملية السياسية. ومن سيحملون السلاح في وجه الحوثيين لن يكونوا من القاعدة فقط، بل قد ينضم إليهم شبان من الإصلاح نفسه، فضلا عن أبناء القبائل.
في هذا الوقت جاء حزب الإصلاح، وفي خطوة رعناء ليفتح حوارا مع الحوثيين، وهو ما اعتبروه هدية من السماء تتيح لهم المضي في البرنامج المشار إليه آنفا، أعني التحكم بالدولة دون تحمل مسؤولياتها.
هل يعني ذلك أن على الإصلاح أن يفتح حربا مع الحوثيين؟ لم نقل ذلك، لكن تركهم يتخبطون ويدفعون التكلفة -ومعهم إيران- سيكون حلا مناسبا بكل تأكيد، لأن الحل معهم لن يكون في واقع الحال إلا جزءا من الحل الإقليمي مع إيران على كل الملفات العالقة في المنطقة، وذلك بعد أن تغدو غير قادرة على تحمل النزيف المتعدد الأبعاد في كل مكان، ولعل ذلك هو ما يفسر ركضها خلف حل في سوريا، على ألا يمس مكتسباتها هناك.
لم يصل محافظو إيران لنقطة تجرع كأس السم، والقبول بتسوية تضع إيران في حجمها الطبيعي بعد، لكنهم سيصلون إليها بعد وقت لا يبدو طويلا، والمطلوب هو ترك حلفائهم في اليمن يتخبطون ويستنزفون، لا أن يجري توفير سفينة نجاة لهم تجعل انتصارهم حقيقيا بدل أن يكون مكلفا.
السياسة تقدير دقيق للموقف، ولا يؤخذ القرار بناء على أوهام وتسريبات، ولعل أكبر مصائب الإخوان تتمثل في اعتمادهم على التسريبات أكثر من التحليل، وهي تسريبات تكون مقصودة في الأغلب، وما ارتكبوه من مصائب في العراق دليل، والأمثلة كثيرة، لعل آخرها ما جرى في مصر حيث كانوا يعتمدون على التسريبات “المخدرة”، بينما كان الانقلاب يتحرك أمام عيونهم، وكنا نقول ونصرخ بذلك -وغيرنا كثير- طوال شهور دون جدوى، وهم يرددون -مرسي تحديدا- أن السيسي “في جيبنا”.
التقدير الدقيق للموقف بأبعاده المحلية والعربية والإقليمية والدولية بعيدا عن التسريبات والمعلومات المضللة هو الذي يفضي إلى اتخاذ القرار الصائب، مع ضرورة توفر الشجاعة دون شك، والشجاعة لا تعني الميل للقوة، لأن للسيف مكانه وللندى مكانه، ووضع أي منهما في موضع الآخر يفضي إلى كارثة، هل تذكرون قرار خوض مواجهة مسلحة مع نظام حافظ الأسد في سوريا مطلع الثمانينيات، وكم كان قرارا غبيا بكل معنى الكلمة؟!
نختم بالإشارة إلى تصريحات رئيس الكتلة البرلمانية لحزب التجمع اليمني للإصلاح زيد بن علي الشامي والتي اعتذر من خلالها عن الحوار مع الحوثيين بعد مضيهم في تفجير مقرات الحزب وأعمالهم الأخرى، ونتمنى أن يكون ذلك محطة لمراجعة الموقف، فأن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي أبدا.
*كاتب وباحث أردني - نقلاً عن الجزيرة نت
للإشتراك في قناة ( اليوم برس ) على التلغرام على الرابط
https://telegram.me/alyompress
اقرأ ايضا :
اضف تعليقك على الفيس بوك