وصفه بعضهم بهنري كيسنجر تركيا، فالرجل الذي عمل مستشاراً لأول رئيس حكومة لحزب العدالة والتنمية عام 2002 لم يكن عادياً، أو مجرد رئيس للوزراء لاحقاً، وإنما كان مفكراً وأكاديمياً، نجح في فرض بصمته على السياسة التركية، الخارجية والداخلية، بأفكاره في كتب هدفت إلى اكتشاف موقع تركيا، وبنيانها الحضاري، وعناصر قوتها في جغرافية مفتوحة على الهويات. اختار أحمد داود أوغلو لنفسه سيناريو الخروج من رئاسة حزب العدالة والتنمية، في مؤتمر طارئ للحزب، يعقد في 22 من مايو/ أيار الجاري، وقد وجد، بعد كل هذه السنوات، أن ممارسة السلطة مع رفيقه، رجب طيب أردوغان، لم تعد ممكنة. ليبقى السؤال الأساسي، هنا، لماذا استقال؟
الأسباب كثيرة: أولها : الخلاف على الصلاحيات، فالحكم في عهد أردوغان بات ثنائياً عقب تفعيل الأخير صلاحياته الرئاسية، بعد أن كانت شرفيةً طوال العقود الماضية، في مقابل صلاحيات تنفيذية كبيرة لرئيس الحكومة. وهكذا بات النظام في أزمةٍ بنيويةٍ لجهة ممارسة السلطة التنفيذية، بين رئيس جمهورية يريد أن يكون الرقم الأول في تحديد السياستين، الداخلية والخارجية، ورئيس حزب حاكم وزراء يرى ممارسة السلطة من حقوقه الطبيعية. ثانيها، تدخل أردوغان في أدق تفاصيل حياة حزب العدالة والتنمية الذي يرأسه أوغلو، مع أنه دستورياً لا يحق له مزاولة أي نشاط حزبي. وبلغ هذا التدخل مستوىً لم يعد أوغلو قادرا على تحمله، وقد أفادت تقارير بأن أردوغان هو الذي حدّد قرابة 70% من الأعضاء الذي رشحوا أنفسهم للانتخابات البرلمانية السابقة.
ومع قرار نقل صلاحيات تعيين قادة الحزب في الولايات، من رئيس الحزب إلى لجنته المركزية، انتهى دور أوغلو رئيساً للحزب، عملياً لصالح أردوغان، من خلال الفريق الذي جاء به إلى قيادة الحزب.
ثالث الأسباب أن أردوغان بات يحس بأن أوغلو يتحمل مسؤولية عدم الانتقال من النظام البرلماني إلى الرئاسي حتى الآن، فالجهود التي بذلها أوغلو في اللجنة الحزبية في البرلمان لم تنجح بعد في لحظ هذا الانتقال في مشروع الدستور الجديد الذي يتم الإعداد له، ويسعى أردوغان إليه بقوة.
رابعاً، بات أردوغان الذي وعد مراراً بقرب الانتهاء مما يسميه التنظيم الموازي، أي حركة فتح الله غولن، يجد نفسه، كل مرة، أمام تجديد هذا الوعد من دون تحقيقه، وهو ما بات يشكل قلقاً كبيرا له، خصوصاً أنه اضطر إلى اتخاذ إجراءات طاولت مؤسساتٍ إعلامية واقتصادية عديدة، فضلا عن الحريات، وهو ما أثار انتقادات شديدة له في الخارج والداخل، ثم لا يجد غير أوغلو يحمله المسؤولية.
خامساً، باتت تداعيات الحرب ضد حزب العمال الكردستاني من قضايا الخلاف بين الرجلين، ففي وقتٍ كان أردوغان يقول إنه لن يعاود التفاوض مع الحزب، وسيواصل الحرب ضده حتى النهاية، كان أوغلو يتحدّث عن شروط لعودة التفاوض. وبرز هذا الأمر بقوة مع الزيارة التي كانت مقرّرة لأوغلو إلى واشنطن، للقاء الرئيس باراك أوباما، والحديث عن عودة المفاوضات مع الحزب الكردستاني، وهو ما أثار غضب أردوغان، وقيل إنه سأل أوغلو عن سبب زيارته أميركا، خصوصاً وأن أردوغان زارها قبل فترة قصيرة، ولعل هذا الخلاف كان السبب الحقيقي لإلغاء الزيارة.
هذه الأسباب وغيرها كافية لوصول العلاقة بين الرجلين إلى طريق مسدود، ومع أن سيناريو خروج أوغلو من الحزب، والحكومة لاحقاً، بدا مدروساً، إلا أن ما جرى كان شقاقاً أو طلاقاً سياسياً داخل البيت الرئاسي والحزبي لحزب العدالة والتنمية. وبغض النظر عن تداعيات استقالة أوغلو، وعن هوية الذي سيحل محله في الحزب والحكومة، فإن ما ينبغي معرفته جيداً هو أن هذا الشخص يجب أن يعرف مسبقاً أن النظام في تركيا أصبح رئاسياً، قبل أن يتم إقراره دستورياً، وأن مهمته تنفيذ أجندة أردوغان في كل ما لم ينجح به أوغلو، فالثابت أن أردوغان بات يحس أنه السلطان الذي يجب أن يُطاع.
للإشتراك في قناة ( اليوم برس ) على التلغرام على الرابط
https://telegram.me/alyompress
اقرأ ايضا :
اضف تعليقك على الفيس بوك