يحاول الغربيون فهم الحالة الإسلامية التي فرضت نفسها على المجتمع الغربي، وتزداد بروزا يوما بعد يوم، حتى أصبحت تمثل هاجسا ينقسم بشأنه السياسيون واللاهوتيون والمواطنون، قبولا ورفضا.
وهذا ما دفع المستشرق البريطاني آدم جيه سيلفرستاين إلى قراءة التاريخ من واقع أن فهم ملابسات ظهور الإسلام وما شهده من تطور لاحق ربما يتيح للمواطن الغربي فهم المجتمعات الإسلامية المعاصرة وفهم علاقتها بالمجتمعات الغربية الحديثة.
ويدور الكتاب -الصادر ضمن سلسلة "مقدمة قصيرة جدا"- حول وقائع التاريخ الإسلامي ودراسته وأهميته، ويقع في سبعة فصول، إضافة إلى المقدمة والخاتمة.
وعناوين الفصول هي: قصة التاريخ الإسلامي، وشعوب وثقافات، والمؤسسات، والمصادر، ومناهج متضاربة، والأهمية الدينية للتاريخ الإسلامي، والأهمية السياسية للتاريخ الإسلامي.
وكان السؤال الأعم الذي سيطر على مجرى الكتاب هو: ما التاريخ الإسلامي؟ هل هو تاريخ تلك الأماكن التي تبوأ فيها المسلمون الحكم؟ أم هو تاريخ المسلمين أينما كانوا وأينما يكونون؟
يقول المؤلف "لو طلبنا من أحد مسلمي ما قبل الحداثة أن يعيِّن حدود التاريخ الإسلامي، لتملَّكته الحيرة على الأرجح من فكرة أن للتاريخ الإسلامي حدودا زمانية أو مكانية من الأساس، فطبقا للموروث الإسلامي كان آدم ونوح وإبراهيم وموسى والمسيح جميعا مسلمين".
والتاريخ الإسلامي هو أحد أجزاء لغز الحالة الإسلامية -في نظره- وهي حقيقة لا يدركها الغربيون، لأن التاريخ يلعب دورا ضئيلا نسبيا في مجتمعاتهم.
لذا يأمل المؤلف أن يقدر الغربيون أهمية التاريخ الإسلامي من أجل فهم المسلمين، من خلال محاور (أسئلة) ثلاثة تتعلق بهذا التاريخ، وهي: ماذا حدث؟ وكيف عرفنا ذلك؟ وما أهميته؟
هل لنا مكان هناك؟
يذكر المؤلف أن الغربيين باتوا مدركين أن الإسلام دين شديد الأهمية. ولا يزال الحديث عما إذا كان هذا الأمر جيدا أم لا، يحتل مكانة بارزة في المنتديات العامة ووسائل الإعلام.
التاريخ الإسلامي هو أحد أجزاء لغز الحالة الإسلامية، وهي حقيقة لا يدركها الغربيون، لأن التاريخ يلعب دورا ضئيلا نسبيا في مجتمعاتهم، لذا يأمل المؤلف أن يقدر الغربيون أهمية التاريخ الإسلامي من أجل فهم المسلمين
وباتوا مدركين أيضا أنه لو دامت الاتجاهات الديمغرافية والإحصائية، فإن ثلث البشر سيكونون من المسلمين قبل مرور وقت طويل. ووفقا لتصريحات المشاهير في أوروبا، يبدو الأمير تشارلز من المؤيدين للاهتمام بدراسة الإسلام، على عكس البابا بنديكت السادس عشر!
وقد أثارت رؤية أخبار المسلمين المتزايدة في العناوين الرئيسية للصحف، وفي شوارع أوروبا وأميركا الشمالية، قضايا مهمة تتعلق بالتكامل والتعددية الثقافية والعلاقات بين الأديان، بل امتد الأمر إلى حد التساؤل عما يعنيه أن يكون المرء إجمالا أميركيا أو بريطانيا؟ وهل للحجاب والنقاب مكان في المجتمعات الغربية المعاصرة؟ أم أنهما -على حد تعبير أحد وزراء الخارجية البريطانيين وكذلك الحكومة الفرنسية- "يعيقان قيمنا الأساسية وأمننا"؟
1400 عام من النمو
اجتهد سيلفرستاين في تلخيص التاريخ السياسي للإسلام، وفيه يظهر وعيه بتفاصيل نشأة هذه الحضارة وفقا للمؤرخين القدامى، والإمبراطوريات الإسلامية المتعاقبة والمتزامنة في رقعة العالم الإسلامي، ومراحل القوة والضعف، ومدى تفاعل المسلمين مع الحضارة الغربية المعاصرة، هذا إلى جانب تحليلاته الخاصة التي لا تخلو من الوجاهة أحيانا.
وقد تبين للمؤلف من خلال قراءته لـ1400 سنة من التاريخ أنه لم يحدث تعارض أو تداخل بين انتشار الإسلام بوصفه دينا من ناحية وبين القوة السياسية من ناحية أخرى.
ففي حالات عديدة كان الإسلام يبلي بلاء حسنا حين كان أداء الحكام المسلمين سيئا للغاية، كذلك فإن كثيرين قد اعتنقوا الإسلام أثناء الاستعمار الأوروبي بخلاف فترات سابقة.
وفي فترة ما بعد الاستعمار ازداد التوزيع الجغرافي للمسلمين زيادة هائلة، لدرجة أن بعض الحركات تخطط الآن لإقامة أكبر مسجد بأوروبا بجوار الموقع الذي أقيمت فيه دورة لندن الأولمبية ٢٠١٢.
المزيج الثقافي الغني
وتحت عنوان "ثقافات وشعوب"، يرصد سيلفرستاين حالة المزج الثقافي التي نشأت في ظلاله الحضارة الإسلامية التي ترعرعت في ضوء انصهار ثلاثة شعوب في بوتقة واحدة، وكان لها دورها المؤثر في البناء، وهي: العرب والفرس والترك.
فإذا كان من المعروف أن معظم المسلمين ليسوا عربا، فمن الواضح أن العرب لعبوا دورا محوريا للغاية في الحضارة والتاريخ، حتى إن مؤيدي الإسلام ومعارضيه على حد سواء يخلطون كثيرا بين المسلمين والعرب.
وللتأثير العربي أبعاد كثيرة، فالقرآن نزل عربيا في بلاد العرب، وحتى لغات الأمم الأخرى التي دخلت في الإسلام سرعان ما اتخذت لحروف لغتها الرسم العربي كالفارسية والتركية والأوردية. ولا شك أن تأسيس حضارة إسلامية لم يكن ليحدث إن بقي العرب في شبه الجزيرة العربية، فهم من فتحوا الشرق الأدنى، وشمال أفريقيا، وشبه جزيرة أيبيريا، وآسيا الوسطى.
علاوة على ذلك، وضع العرب الأسس السياسية والأيديولوجية التي بُنيت عليها الإمبراطوريتان العباسية والأموية.
يبرز المؤلف التنوع الكبير في مضامين بعض المصطلحات على امتداد الزمان والمكان كمصطلحات الإمامة والخلافة والجهاد، ويدلل على هذا بأن اتساع الأرض وتنوع الثقافات يساهمان إلى حد كبير في تنوع مفهوم المصطلح الواحد
وقد أفاض المؤلف أيضا في الكشف عن دور الفرس والأتراك في مسيرة الدولة الإسلامية، وما قدمته تلك الشعوب من ثقافة وآثار.
والكتاب لا يكتفي برصد دور تلك الشعوب اللغوي والثقافي والتاريخي في بناء الحضارة بل يقدم رؤية الغربي المعاصر لتلك الشعوب والأجناس، فهو -على سبيل المثال وفي معرض حديثه عن العرب- يذكر كيف أن السياسي البريطاني روبرت كيلروي نشر مقالا عام ٢٠٠٣ يقول فيه "نحن لا ندين للعرب بأي شيء، فهم ليسوا سوى منفذي عمليات انتحارية، وباتري أطراف، وقامعي نساء".
وقد لاحظ أن أهم ردود الأفعال على تلك المقالة المتطرفة كانت من مسلمين غربيين، ليسوا ذوي أصول عربية!
كيف حدث هذا؟
وفي سياق إجابته عن السؤال: كيف حدث؟ يتطرق المؤلف إلى مؤسسات الحضارة الإسلامية في مفهومها الواسع، كالمسجد ومدى ضرورته في حياة المسلمين.
كما أبرز التنوع الكبير في مضامين بعض المصطلحات على امتداد رقعة الزمان والمكان التي يتمدد فيها المسلمون، كمصطلحات الإمامة والخلافة والجهاد، ويدلل على هذا بأن اتساع الأرض وتنوع الثقافات يساهمان إلى حد كبير في تنوع مفهوم المصطلح الواحد، فالجهاد في ظل الصوفية التركية يختلف عنه في ظل السلفية العربية، وقد تجد له أشكالا أخرى كالعمليات الانتحارية -على حد تعبيره- ودوافعها في فلسطين.
وفي إطار حديثه عن "المصادر"، ويقصد بها فروع المعرفة التي قامت عليها الحضارة، يشير سيلفرستاين إلى الدراسات القرآنية والمخطوطات القديمة ومدونات التاريخ.
ثم رأيناه يتطرق بشيء من التفصيل للابتكار النقدي الإسلامي المتمثل في علوم الحديث، حيث انعطف إلى وجهة نظر مستشرقين تحدثوا بالنقد عن علوم الحديث، مثل جولدتسيهر.
كما تطرق في رحلة خاصة لما يصفها بأنها "المناهج المتضاربة" في قراءة التاريخ، مستعينا بآراء لساطع الحصري، وقراءات لإدوارد سعيد من خلال كتابه "الاستشراق"، ومارشال هودجسون من خلال كتابه "مغامرة الإسلام".
ويرى سيلفرستاين أن الدراسات التاريخية التقليدية عند المسلمين تتعامل مع تاريخ الإسلام بلين استثنائي، وتشير ضمنا -حتى وإن كان دون وعي- إلى أن الإسلام لا ينبغي أن يتعرض للتحليل الصارم ذاته الذي خضعت له الديانات الأخرى، خشية ألا يكون "صلبا" بما يكفي لتحمل الفحص الدقيق.
ودلل على تلك الحساسية المفرطة تجاه القراءة الناقدة للتاريخ الإسلامي ببعض الحوادث القليلة، مثل أزمات: طه حسين، ونصر حامد أبو زيد، وسليمان بشير.
هل للتاريخ أهمية؟
ويقارن المؤلف بين الموقف الغربي الأكاديمي والإسلامي السلفي، بأن ثمة إسلاما أصليا أو جوهريا يرغب المستشرقون في وصفه (والتحكم فيه)، في حين يرغب الإسلاميون في أن يعيدوه إلى سابق عهده.
أحيانا نرى بعض الشباب الغربيين وهم يرتدون أساور منقوشا عليها "لنجعل الفقر تاريخا"، وهو شعار يعكس فهما شائعا بأن التاريخَ مقلبُ نفايات، تلقى فيه الأشياء غير المرغوب فيها، وليس كنزا يمكن العثور فيه على أشياء ذات قيمة
ومن هنا انطلق في محاولة الإجابة عن السؤال: لماذا تحتل أحداث وقعت على مدار ألف سنة ماضية أهمية عملية لأناس يعيشون في القرن الحادي والعشرين؟ أو بمعنى آخر: ما "الأهمية الدينية للتاريخ الإسلامي؟".
إن التباين في وجهة النظر حول أهمية التاريخ في الغرب، لا يوجد لها نظير في عقل المسلم، حيث يُرى بعض الشباب الغربي وهم يرتدون أساور منقوشا عليها "لنجعل الفقر تاريخا"، وهو شعار يعكس فهما شائعا بأن التاريخَ مقلبُ نفايات، تلقى فيه الأشياء غير المرغوب فيها، وليس كنزا يمكن العثور فيه على أشياء ذات قيمة!
بينما تُرى فئة أخرى من الشباب وهم يرتدون أساور منقوشا عليها "ماذا كان المسيح سيفعل؟"، والهدف من هذه الأساور تذكير من يرتدونها باتباع تعاليم المسيح حينما تواجههم أزمات أخلاقية.
أما عن المسلمين، فإنهم لا يريدون أن يعرفوا ماذا كان المسيح سيفعل، والأشد غرابة أنهم لا يريدون أن يعرفوا ماذا كان محمد (صلى الله عليه وسلم) سيفعل، بل يريد المسلمون أن يعرفوا ماذا فعل محمد (صلى الله عليه وسلم)؟ وهو ما جعلهم يبتكرون مصطلح "السنة"، ومن هنا بدأت أهمية التاريخ عند المسلمين!
ولذا يرى سيلفرستاين أنه دون النظر إلى التاريخ الإسلامي سيجد الغربي صعوبة بالغة في فهم الحالة الإسلامية برمتها، وهذا تحديدا ما دفعه لتأليف الكتاب.